شبكة الإلحاد العربيُ

شبكة الإلحاد العربيُ (https://www.il7ad.org/index.php)
-   العقيدة الاسلامية ☪ (https://www.il7ad.org/forumdisplay.php?f=11)
-   -   لهذا اسلمت! ( أتقبل النقد البناء من دون تجريح ) (https://www.il7ad.org/showthread.php?t=14347)

لا أدري 04-22-2018 02:01 PM

لهذا اسلمت! ( أتقبل النقد البناء من دون تجريح )
 

من دون تجريح ومن دون شتم أو اي شكل من اشكال التطرف، بعقول تحترم ذاتها وذات الاخر وان خالفته في رأيه ولم توقر قراره، يبقى الانسان كائن مصان وكرامته لا تهان، وانا ضيفكم وللضيف سبع زلات والواجب عليكم تحملي إن اخطئت، نأمل ان يستفيد الكل من الاخر وان لا نخل بإنسانيتنا مهما تعالت الاصوات. سيكون هذا اخر موضوع اكتبه في المنتدى، ولكني سأتواصل معكم وسأترك لكم صندوق الرسائل لتلقي اي استفسار او مناقشة او حوار حضاري كما حاولت من قبل وسيسعدني ان اكون زميلاً فكرياً لكم وان احاوركم بقدر المستطاع.

أرجو ممن يريد المشاركه في هذا الموضوع ان يقرأ هذه السطور جيداً وان كانت طويلة، فهناك اجابات فيها متعاقبه وربما اذ لم تجب الفقرة الاولى اجابت الثانية، فهي ليست مجرد فكره وانما منظور شمولي للحياة قد لخصته في هذه السطور ويسعدني ان اشارككم اياه.



الإنسان الطبيعي/المادي

لابد ان يميز المفكر بين النموذج المجرد والتجربة المعيشة عندما يصوغ السؤال المعرفي «ما هو الإنسان..؟» بطريقة خاصة تجمع بين المجرد والمتعين، إن قضية أصل الإنسان هي حجر الزاوية لكل أفكار العالم، فأي مناقشة تدور حول: كيف ينبغي أن يحيا الإنسان؟ تأخذنا إلى الوراء حيث مسألة أصل الإنسان، أي أنه بدلًا من أن يسأل السؤالَ المعرفي بطريقة مباشرة جافة مجردة، يحوله إلى إشكالية وجودية متعينة، يمكن للإنسان أن يدركها بطريقة مباشرة. وحين يتعامل مع إشكالية الأصل هذه فإنه لابد يتناولها بطريقة فريدة. مما يحتم عليه ان يتجاوز الرؤية المادية المتمثلة في نظرية داروين في التطور، وبدلًا من أن يحاول تفنيدها من خلال علم البيولوجيا والعلوم الطبيعية.. فإنه يلجأ لإستراتيجية مختلفة تماما، إذ يحاول أن يبين عجز النظريات المادية، بما في ذلك نظرية التطور الداروينية، عن تفسير البعد الإنساني في ظاهرة الإنسان.

أصل الإنسان

فلو نظرت مثلاً للتصور الدارويني (المادي) للإنسان، في إشكالية الأصل. فكل المخلوقات حسب التصور الدارويني المادي ترجع إلى الأشكال البدائية للحياة (الأميبا)، والتي ظهرت بدورها نتيجة عملية طبيعية كيميائية [مادية]. إن الإنسان في الحقيقة (من هذا المنظور) إنْ هو إلا حيوان تطور من المادة إلى الأميبا، والأميبا تطورت حتى وصلت إلى القردة العليا، ومنها إلى الإنسان «الذي اتجه نحو الكمال الجسمي والفكري ومنه إلى الذكاء الخارق. فالتطور من حيث هو حيواني وخارجي في جوهره بسيط ومنطقي أو نفعي ووظيفي، لأنه ظل محدودًا في نطاق الطبيعة/المادة». إن «التطور» بطبيعته (وبغض النظر عن درجته في التعقيد أو الحقبة الزمنية التي استغرقها) لم يستطع أن ينتج إنسانا، وإنما مجرد حيوان مثالي، قادر على التحرك داخل الجماعة بكفاءة عالية لتحقيق هدف البقاء المادي. فثمة أشياء مشتركة أكيدة بين الإنسان والحيوان، «فهناك شعور وذكاء ووسيلة أو أكثر من وسائل الاتصال، وهناك الرغبة في إشباع الحاجات، والالتحاق بمجتمع، وبعض أشكال الاقتصاد». بالنظر من هذه الزاوية.. فليس في الإنسان شيء لا يوجد أيضا في المستويات العليا من الحيوانات الفقارية والحشرات. والفرق بين الإنسان والحيوان، حتى بعد «تطور» الإنسان، إنما هو فرق في الدرجة والمستوى والتنظيم وليس في النوع، فليس هناك (حسب هذه النظرية المادية) جوهر إنساني متميز.
ولكن الإنسان في واقع الأمر مختلف بشكل جوهري عن هذا الإنسان الطبيعي/المادي، فهو ليس مجرد وظائفه البيولوجية، إذ إن فيه «شيئًا» ينقله من عالم الضرورة والحتميات الطبيعية والسببية المطلقة والمنفعة المادية.. إلى عالم الحرية والاختيار والقلق والتركيب والتضحية إليس كذلك؟.

الدّوَار الميتافيزيقي واللحظة الفارقة

اذا تأملت منذ فجر التاريخ الإنساني إلي ان صار في كبد السماء ستلحظ ان ثمة شيئًا ما حدث للإنسان جعله لا يقنع بجانبه الطبيعي المادي الحيواني، ودفعه إلى أن يبحث دائما «عن شيء آخر غير السطح المادي الذي تدركه الأسماع والأبصار وصولًا إلى ما لا تدركه الأسماع والأبصار» (ولنسمه «المقدس»)، بحيث بدأ يفكر في معنى حياته وفيما وراء الطبيعة، «فيما وراء القبور». ما هذا الشيء الذي جعل الإنسان لا يكتفي «بصنع الآلات التي تحسّن من مقدرته على البقاء المادي، وبدلا من ذلك بدأ في صنع العبادات والأساطير والمعتقدات الخرافية والغريبة والرقصات والأوثان والسحر وأفكاره عن الطهارة والنجاسة والسمو واللعنة والبركة والقداسة والمحرمات والمحظورات الأخلاقية التي تشمل حياته بأسرها..؟ ما الذي جعل الإنسان لا يقنع بالدلالة المباشرة للأشياء، وإنما يضيف لها دلالة متخيّلة تكون أكثر أهمية في نظره من دلالتها الواقعية؟»، فبينما يذهب الحيوان للصيد مباشرة ويوظف كل ذكائه في اصطياد الفريسة ويستجيب للمثيرات المادية التي من حوله بشكل مباشر «يحيط الإنسانُ مثل هذا الفعل بطقوس وأحلام وصلوات. وبينما كان الحيوان يتابع فريسته بمنطق صارم، كان الإنسان يقدم الضحايا والقرابين ويقيم الصلوات والشعائر (الصوم مثلا). وبينما كان النحل يقضي على كل أعضاء جنسه ممن لا فائدة لهم ولا نفع، كان الإنسان يكرّم المسنين والموتى ويقيم الشعائر الجنائزية. وبينما تتعامل الحيوانات مع عالم السطح الظاهر المادي في وظيفية مدهشة، يغوص الإنسان إلى أعماق حقيقية ومتخيلة، داخله وخارجه، ومن هنا تظهر أهمية النية وأهمية الإلهام».

وبينما تؤدي الحيوانات وظائفها في حتمية بالغة: تتقدم نحو فريستها حينما تسنح الفرصة، وتفرّ حينما تحس بالخطر، وتعيش في القطيع أو السرب أو الخلية دون فزع أو اكتئاب.. فإن الإنسان دائم التردد، وسلوكه مرتبط بحريته واختياراته المتنوعة، فهو لا يمكن أن يكون جزءًا من آلية وظيفية اجتماعية مقررة مسبقا. ثم هناك هذا الخوف والقلق الذي يشعر به الإنسان من خلال تأمله الدائم في الكون ومعضلاته، وهو ليس مجرد خوف بيولوجي (مثل ذلك الذي يستشعره الحيوان)، إنما هو خوف روحي كوني بدائي، موصول بأسرار الوجود الإنساني وألغازه، وممتزج بحب الاستطلاع والإعجاب والدهشة والنفور. تلك المشاعر المختلطة هي العامل الخالد الأزلي المحدد لوجود الإنساني (هايدجر)، وهي تكمن في أعماق الثقافة الإنسانية.

على مر العصور يصاب الانسان بدوار مجهول الأصل ليس له سبب مادي ملموس، «دوار ميتافيزيقي»، وهو دوار يشكل لحظة فارقة في تاريخ البشرية، ذلك أنه إلى جانب الإنسان الصانع (باللاتينية: «هومو فابر» homo Faber) الذي أدت إليه عملية التطور، وجد الإنسان العاقل (باللاتينية: «هومو سابين» homo sapiens) وهو إنسان مختلف عن الحيوان وعن إنسان داروين الطبيعي، فهو إنسان ذو عقل وخيال ووجدان، يحس بأنه جزء من الطبيعة وغريب عنها في ذات الوقت، إذ توجد مسافة تفصله عنها. ولذا فهو يشعر بأن ثمة عالما آخر يحتاج للتعبير عنه والتواصل معه، فيميل الإنسان (بغض النظر عن مستوى تقدمه أو تخلفه التكنولوجي) نحو الرسم والغناء وتقديم القرابين ولإقامة شواهد القبور. فهو يشعر بأن هناك في داخله ما يميزه عن الحيوانات التي قد تصنع الآلات (كالقردة التي تستخدم العصا للوصول إلى الموز في أعلى الشجرة، أو الدب الذي يستخدم الحجر لقتل أعدائه)، ولكنها لا يمكن أن تقدم أي قرابين أو ترسم أي لوحات ولا تشعر بوخز الضمير، وبغض النظر عن تلك التحليلات المؤخره حول ممارسة بعض القردة للطقوس الدينية كرمي الحجر وغير ذلك ففي نهاية هناك من الأديان ماتؤيد ان فكرة العبادة تجري على كل المخلوقات، غير ان ممارستها من قبل الإنسان حتماً لا يمكن مقارنتها بمخلوق اخر هذا وإن اثبتت التقارير العلمية المؤخرة صحة التحليلات والاستنتاجات.
اما الإنسان من الواضح أن الدوار الميتافيزيقي فصلهعن عالم الطبيعة/المادة، ولذا فهو يقف متعاليا عليها رغم وجوده فيها، ومن هنا نشأت ثنائية الطبيعي/المادي من جهة والإنساني/الروحي من جهة أخرى. وحتى ندرك أبعاد هذا المفهوم المحوري لا بد أن نميز بين كل من التوحيد والواحدية، إذ إنهما يقفـان على طرفي نقيض. فالتوحيد هو الإيمان بإله واحد منزه عن الطبيعة والتاريخ ﴿ليس كمثله شيء﴾، مما يعني ثنائية الخالق والمخلوق، وهذا مقتضى النموذج الإيماني الذي يقول إن الله خلق العالم ولم يحل فيه، بمعنى أن الخالق غير متعادل مع مخلوقاته. بعكس المنظومات المادية التي لا يوجد فيها إلا جوهر واحد هو الجوهر المادي، ولذا فهي منظومات واحدية. ولو افترض أنْ آمَن ماديّ بإله، فهذا الإله لا بد أن يكون حالّا في المادة، ومن هنا فإنني أقول دائما: إن كثيرًا من كلام أهل الحلول من دعاة وحدة الوجود هو في جوهره مادي، حتى وإن استخدموا مصطلحات صوفية إيمانية، لأن من يؤمن بوجود جوهر واحد في الكون يؤمن بالواحدية ولا يؤمن بالتوحيد، إذ التوحيد يعني أن الله مفارق للمادة منزه عنها. وهذه الثنائية غير الأثنينية التي سادت في بعض المنظومات الوثنية، والتي تذهب إلى أن الكون يحكمه عنصران متعادلان متساويان. إن ثنائية الوجود الإنساني (ثنائية المادي والروحي) لا يمكن تفسيرها وضمان بقائها واستمرارها إلا بافتراض ثنائية أخرى، هي ثنائية الخالق والمخلوق، ثنائية تأسيسية لا يمكن ردها إلى ما هو خارجها. ومن هنا يرى المتأمل أن الإنسان بصفة أساسية لا يوجد «إلا بفعل الخلق الإلهي». ومن ثم، إذا لم يكن هناك إله فلن يوجد إنسان.

أسطورة الصدفة

عادة ما يلجأ الإيمانيون إلى الهجوم على نظرية التطور الداروينية التي تؤكد الأصل المادي للإنسان، محاولين تفنيدها وإثبات «عدم علميتها» ووجود ثغرات فيها، من خلال الإشارة إلى دلائل مادية ونظريات علمية عديدة. وهذا الأسلوب في التفنيد مهم، ولكنه ليس حاسما؛ لأن دعاة النظرية الداروينية سيأتون هم أيضا بأدلة مادية، مما يجعل من المستحيل حسم القضية. غير ان عجز النموذج الدارويني في التطور عن تفسير ظاهرة الإنسان في سياق الثنائية الجوهرية التي أشرنا إليها، أي ثنائية الإنساني والطبيعي يحسم المسألة.

ان الواقع المعاش والتأمل فيه يخبرنا بانه المستحيل تصديق فكرة أن العالم قد ظهر نتيجة تفاعلات كيمائية تمت بالصدفة وأدت إلى ظهور خلايا بسيطة ثم تطورت إلى أن أصبحت «الإنسان». وفرضية الصدفة هذه تقع في صميم نظرية التطور وكل النظريات المادية. فالقول أن خلق العالم تم بالصدفة هو مجرد افتراض وتخمين وليس حقيقة. ومن أشهر الاعتراضات على هذه الفرضية أن الإيمان بها يعادل الإيمان باحتمال أن يقوم قرد بالخبط على آلة كاتبة فيكتب لنا قصيدة رائعة كمعلقة امرؤ القيس أو باحتمال أن يلقي إنسان (أو قرد) بالنرد ويحالفه الحظ ويأتي 6/6 ليس مرة واحدة ولا ألف مرة وإنما 44 مليون ألف مرة متتالية! كما أن المصادفة وحدها لا تجدي في تفسير الخلق، فإن تكوين الكائنات من تلك الذرات الهائمة يعني أنها كانت «مصممة»، بحيث إنها إذا اجتمعت بهذه الطريقة تكوَّن منها ذهب، وإذا اجتمعت بتلك الطريقة يتكون منها ماء، وهكذا.. أي أن التصميم لا بد أن يسبق الصدفة فكيف سبقت الصدفة التصميم؟

واذا تأملنا أكثرفي نظرية النُّشوء من خلال الصدفة ولنفترض اننا وجدنا في اكتشاف أثري حجرين موضوعين في نظام معين أو قُطعا لغرض معين، فإننا جميعا نستنتج بالتأكيد أن هذا من عمل إنسان ما في الزمان القديم. فإذا وجدنا بالقرب من الحجر جمجمة بشرية أكثر كمالا وأكثر تعقيدًا من الحجر بدرجة لا تقارن، فإن بعضا منا لن يفكر في أنها من صنع كائن واع، بل ينظرون إلى هذه الجمجمة الكاملة أو الهيكل الكامل كأنهما قد نشآ بذاتيهما أو بالصدفة هكذا.. بدون تدخل عقل أو وعي!».
أما هؤلاء الذين يرون أن المادة (من خلال الصدفة وحدها) قد أدت إلى ظهور عناصر متجاوزة للمادة مثل الإنسان والوعي والعقل والغائية، فهم ـ في نهاية الأمر ـ ينسبون للمادة قُدرات غير مادية، ومن ثم فإنهم يكونون قد خرجوا بذلك عن مقاصد الفلسفة المادية، خصوصا أن فرضياتهم لا تعدو كونها تكهنات عنيدة تضمن لهم الاستمرار في ماديتهم البسيطة، وتضمن لهم في الوقت نفسه تفسير ما حولهم من تركيب ووعي وغائية وفق هذا المنطق اللامنطقي».

الإنسان والمقدس

أن فكرة الصدفة ليست فكرة من الصعب تصديقها او أنها ليست فكرة علمية أكيدة كما يدّعون، وإنما هي فكرة تخمينية. ليست نتيجة عملية تجريبية أو ملاحظة علمية، وإنما نتيجة عملية عقلية محضة تحاول سد ثغرة في النظام المادي وتدعي أنها علم. ناهيك عن العجز التفسيري الكامل لنظرية التطور في تناولها الظواهر الإنسانية.

أن النظرية الداروينية لم تكرس اهتماما كافيا للظواهر الثقافية، لسبب بسيط: وهو أن هذه الظواهر ليست نتاج التطور (فهي تقف متعالية عليها، مفارقة لها)، اذا بحثت جيداً ستجد انها تحمل في ثناياها إجابات عن بعض الأسئلة الحاسمة عن الوجود الإنساني. فإذا كان هناك خط متصل «للتطور المادي» يؤكد على الكفاءة والمنفعة وتسخير الطبيعة والآلات، فهناك خط مواز للثقافة الإنسانية يؤكد على قيم مختلفة تماما لم يحدث فيها تقدم أو تطور (التضحية والضمير والخوف من الموت والمجهول)، وعلى نشاطات إنسانية مختلفة (الفن والدين والأخلاق والفلسفة). وهذه القيم والنشاطات الإنسانية فرع سلالة واحدة تشير إلى وجود عالم آخر (نظام آخر) إلى جانب عالم الطبيعة وهي لا تعرف التقدم أو التطور فهل تغيرت على مر الزمان؟ إن نظرية التطور الداروينية لا تفسر كيف لم يتغير تاريخ البشر الجُوّانيّ كثيرًا.. فالإنسان (بأخطائه، وفضائله، وشكوكه، وخطاياه، وكل ما يشكل وجوده الجُوّانيّ) يبرهن على عدم قابليته للتغيير. فدراسة رسوم إنسان «نياندرتال» في فرنسا تبين أن الحياة النفسية للإنسان البدائي لا تختلف إلا قليلا جدًا عن الحياة النفسية للإنسان المعاصر.

نعو ونسأل لماذا أصيب الإنسان بالدوار الميتافيزيقي..؟ لماذا توقف عن تحسين كفاءته في الصيد ليقوم ببعض الشعائر التي لا معنى لها من منظور مادي نفعي..؟ كان الإنسان يسأل عن كيفية البقاء وعن آليات الاستمرار، ثم بدأ يسأل فجأة عن المعنى والهدف من وجوده.. أي أنه بدأ يسأل لماذا..؟ لو كنا حقا من أبناء هذا العالم، فلن يبدو لنا فيه شيء نجسًا أو مقدسًا، فهذه أفكار مناقضة للعالم الذي نعرفه. نحن لا نستطيع أن نجد أثرًا لعبادات أو محرمات أو مقدسات في أكثر أنواع الحيوانات تطورًا من المنظور العام اما الحالة الخارقة للطبيعة والتي تحدث احياناً فتفسيرها يعزز في كل الأحوال المنظور الديني فالمؤمن يؤمن بالمعجزات واذا حصلت فلا توضع في قالب عام يقاس عليه جميع الأصناف تبقى خصوصيتها وتفردها التي تعزز بعض الأفكار المتداخله بين خطي العرض والطول المادي والروحي والتي يصورها الإسلام ببشكل تفرد بهعن باقي الأديان كالمسيحية واليهودية.

إن ظاهرة الحياة الجُوّانية أو التطلع إلى السماء ظاهرة ملازمة للإنسان، غريبة عن الحيوان. هذا الجانب من الإنسانية، وهذه الظواهر [الخير والشر، المقدس والمدنس، الشعور بالفجيعة، الصراع الدائم بين المصلحة والضمير، التساؤل عن وجودنا] تظلّ جميعها مستعصية على أي تفسير منطقي. ولكن إنطلاقا من الإيمان بثنائية الإنسان والطبيعة، والاختلاف الجوهري بين الاثنين، وثنائية الطبيعة البشرية، يبين علي عزت بيجوڤيتش أن أصل الإنسان لا يمكن أن يكون ماديًّا.. فهو ليس نتيجة تطور مادي، فالعنصر الروحي في الإنسان الذي يستعصي على التفسيرات المنطقية المادية لا يمكن أن يوجد إلا بفعل الخلق الإلهي، والخلق ليس عملية مادية وإنما فعل إلهي. ليس شيئًا متطورًا، وإنما هو فعل فجائي (كن.. فيكون). «فمنذ تلك اللحظة المشهودة، لم يعد ممكنا لإنسان أن يختار بين أن يكون حيوانا أو إنسانا، إنما اختياره الوحيد أن يكون إنسانا أو لاإنسان». بمعنى أن الإنسان لا يمكن أن يكون إنسانا إلا بوجود الله، فإن مات الله (كما يزعمون في الحضارة الغربية) مات الإنسان، أو إن نسينا الله (كما نقول نحن) فإننا ننسى أنفسنا.

قضية الحرية

الحرية id سمة إنسانية أخرى نستطيع ان نقوّض من خلالها نظرية التطور البيولوجي المادي، وهي مقدرة الإنسان على الاختيار، أي قضية الحرية ، ففي عالم الطبيعة/المادة توجد الأشياء وجودًا موضوعيا، خاضعا لقوانين موضوعية صارمة. فالأرض تدور حول الشمس سواء عرفنا أم لم نعرف، شئنا أم أبينا. ثمة حتمية مادية تسيطر على عالم الحقائق الموضوعية، وهو ما لا يمكن وصفه بالخير أو بالشر، فنحن في هذا العالم لا نفعل ما نريد أن نفعله، بل ما علينا أن نفعله. ثمة جانب فينا خاضع للحتميات المادية، ولكن الإنسان لا يعيش في عالم المادة وحسب، فهناك عالم جواني قوامه الحرية التي تعبر عن نفسها في النوايا والإرادة والشوق والرغبة.
أما خارج الإطار المادي فثمة حيز للإنسان يتحرك فيه بحيث يمكنه الاختيار بين بدائل مختلفة، فيختار ـ مثلا ـ أن يتجاوز البرنامج الطبيعي الحتمي ويقوم بفعل قد يبدو غير عملي وغير مفيد من الناحية المادية، مثل أن يدافع عن كرامته أو يرفض الظلم. والإنسان الذي ينطلق من الرؤية المادية قادر ولا شك على الاختيار والحرية والبذل والعطاء، ولكنه بذلك يكون قد سلك بطريقة تتناقض وماديته المزعومة، فقد تجاوز قوانين المادة. فهو إن ضحى بنفسه من أجل ابنه القعيد ـ مثلا ـ فإنه لا يمكنه إخضاع هذا الفعل للنموذج المادي، وعلينا أن نهنئ هذا المادي على نبله وعظمته التي تجاوز بها منظوره المادي! إذ إنه حين اختار أن يدافع عن ابنه ويحمله قد عبَّر عن شيء عظيم داخله يتجاوز منظومته المادية الواحدية.

إن قضية الخلق هي في الحقيقة، قضية الحرية الإنسانية. فإذا قبلنا فكرة أن الإنسان لا حرية له، وأن جميع أفعاله محددة سابقا ـ إما بقوى مادية داخله أو خارجه ـ لا تكون الألوهية ضرورية في هذه الحالة لتفسير الكون وفهمه. ولكننا إذا سلمنا بحرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله إما ضمنًا وإما صراحة. فالله وحده هو القادر على أن يخلق مخلوقا حرًّا، فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق. الحرية ليست نتيجة ولا نتاجا للتطور، فالحرية والإنتاج فكرتان متعارضتان. فالله لا ينتج ولا يشيد.. إن الله يخلق..!

«قد ينجح الإنسان (آجلا أو عاجلا، خلال هذا القرن أو بعد مليون سنة من الحضارة المتصلة) في تشييد صورة مقلدة من نفسه، نوع من الإنسان الآلي أو مسخ، شيء قريب الشبه بصانعه. وهذا المسخ الشبيه بالإنسان لن تكون له حرية، سيكون قادرًا فقط على أن يتحرك في إطار ما بُرمج عليه. وهنا تتجلى عظمة الخلق الإلهي، الذي لا يمكن تكراره أو مقارنته بأي شيء حدث من قبل أو سيحدث من بعد في هذا الكون. في لحظة زمنية من الأبدية، بدأ مخلوق حر في الوجود، بينما لم يكن ممكنا أن يتحول نتيجة التطور (بدون تلك اللمسة الإلهية) إلى الإنسان. إن التطور، بدون تلك اللمسة، كان سينتج ـ على الأرجح ـ حيوانا أكثر تطورًا، حيوانا مثاليا، أو كائنا بجسم إنسان وذكائه، ولكن بدون قلب ولا حياة جُوّانية. ذكاء متحرر من وخز الضمير والأخلاق، وربما كان أكثر كفاءة.. ولكن أشد قسوة في الوقت نفسه».

«وترتبط بفكرة الخلق الإلهي فكرة الذات الإنسانية. وفي حقيقة الأمر.. كل شيء يمكن اكتشافه في الطبيعة فيما عدا الذات الإنسانية أو الشخصية. إننا نتصل، فقط من خلال هذه الذات، باللانهائي، ومن خلالها وحسب نشعر بالحرية وندرك العالم الآخر الذي نتشارك معه في ميراث واحد. الإنسان وحده فقط، يستطيع أن يشهد بوجود عالم الأرواح والحرية. وبدون الذات، يستحيل أن يشهد عالم ما وراء الطبيعة، ذلك لأن كل شيء آخر (بجانب ذات الإنسان) هو وجود براني ظاهري. والتأمل استغراق في الذات، محاولة للوصول، واكتشاف لهويتنا وحقيقة حياتنا ووجودنا... والوصول إلى الحقيقة الكبرى، السر الوحيد الأكبر، هذه الحقيقة تعني كل شيء ولا شيء: كل شيء بالنسبة للروح، ولا شيء بالنسبة لبقية العالم».

«وقل الشيء نفسه عن فكرة الخلود والبعث: فإحساس الإنسان بالخلود هو محاولته النظر فيما وراء القبور والبحث المجهد عن طريقة خارج هذا العالم الذي أصبح الإنسان فيه غريبا. وإذا غاب إحساس الإنسان بالخلود فإن الذات المرتبطة باللانهائي تغيب هي أيضا، ولا يبقى سوى المادة والعدم».

الأخلاق والمادية

إن الأخلاق المادية (الداروينية النيتشوية) تنطلق من التسوية بين الإنسان والمادة، وبذا يصبح الهدف الوحيد لكل منهما هو البقاء، وآلياته الأساسية هي الذكاء والقوة. في هذا الإطار المادي لا يمكن أن نتحدث إلا عن الفعل ورد الفعل. فالمثير (المادي) تتبعه استجابة مادية بلا تردد أو ثنائيات أو ذكريات أو كوابح أو محرمات.

في هذا الصراع من أجل البقاء (المادي) لا يفوز الأفضل (بالمعنى الأخلاقي) وإنما الأقوى والأكثر تكيفا مع قوانين الطبيعة، أي الأفضل بالمعنى الطبيعي/المادي. ولذا فإن صوت الطبيعة هو «تخلَّص من الضمير والشفقة والرحمة... اقهر الضعفاء واصعد فوق جثثهم» على حد قول نيتشه، ابن داروين وبسمارك..! إن كل ما فعله «نيتشه» هو تطبيق قوانين البيولوجيا على الإنسان، فكانت النتيجة المنطقية هي نبذ الحب والرحمة وتبرير العنف والكراهية.

والأخلاق المادية هي النفعية المادية، ومن ثم يكون الانغماس في كثير من النشاطات المادية للإنسان (التي تحقق الربح المادي له) هو قمة الالتزام الخلقي المادي. خذ على سبيل المثال ما يسمى بالجرائم المقنَّنة (أي التي يسمح بها القانون) «كالفن الإباحي، والكتابات الداعرة، واستعراضات العرايا، وقصص الجرائم وما شابه ذلك... أي فيلم داعر أرخص في إنتاجه عشرات المرات من إنتاج فيلم عادي وأرباحه تزيد عشرات المرات على أرباح الفيلم العادي». إن إنتاج مثل هذا الفيلم من منظور المعايير المادية أفضل من إنتاج فيلم يلتزم بالمعايير الثقافية والإنسانية.. ومع غياب أي منظومات أخلاقية متجاوزة للنظام الطبيعي المادي تصبح اللذة هي الخير والألم هو الشر، ويصبح ما يحققه الإنسان نفسه من منفعة مادية (تزيد من إمكانيات بقائه المادي) هو الخير الأعظم. أو كما يقول «بنتام» ـ صاحب مذهب المنفعة: «لقد أخضعت الطبيعة البشر لحكم سيدين، هما: اللذة والألم. فهما وحدهما اللذان يحكمان أفعالنا».

ولكن هل يمكن للعقل (الذي يدور في الإطار المادي) أن يولد منظومات أخلاقية..؟ «إن العقل يستطيع أن يختبر العلاقات بين الأشياء ويحددها، ولكنه لا يستطيع أن يصدر حكمًا قيميًا عندما تكون القضية قضية استحسان أو استهجان أخلاقي».. «الطبيعة والعقل على السواء لا يمكنهما التمييز بين الصحيح والخطأ، بين الخير والشر. فهذه الصفات ليست موجودة في الطبيعة».. «إن محاولة إقامة الأخلاق على أساس عقلي لا تستطيع أن تتحرك أبعد مما يسمى بالأخلاق الاجتماعية، أو قواعد السلوك اللازمة للمحافظة على جماعة معينة، وهي في واقع الأمر نوع من النظام الاجتماعي»، نوع من الإجراءات والقوانين الخارجية. كما أن التحليل العقلي للأخلاق يختزلها إلى أنانية وتضخيم للذات.

ولكننا حين نتفحص الأمر بشيء من العمق نجد أن في الإنسان شيئا ما يرفض هذا النموذج المادي وأن الأخلاق الحقيقية (كما هو الإنسان ذاته) ضد الطبيعة/المادة. فالإنسان ليس مجرد لاهث وراء اللذة أو المصلحة الشخصية كما تصوره العلوم الإنسانية العلمانية، التي تستند إلى نماذج مستمدة من العلوم الطبيعية، فهو كثيرًا ما يرفضها، بل إن الخبرة الإنسانية في مجال الأخلاق تناقض الفكرة المادية. فأي لذة توجد في الزهد والتبتّل والصيام وفي كثير من أنواع نكران الذات وكبح النفس..؟ فالإنسان «يضحي بنفسه من أجل الوطن أو من أجل جوانب معنوية ليست لها أي قيمة مادية، ويموت دفاعا عن الشرف. وهو، حينما يرى مشهد العدالة المهزومة، قد يهب لنصرة المظلوم برغم القوة الغاشمة، برغم أنه يعرف أن هذا قد يودي به، وهو على استعداد للتضحية بنفسه من أجل الغير (وعنده أيضا الإمكانية للبطش به)».

فإذا «غامر الإنسان بحياته فاقتحم منزلا يحترق لينقذ طفل جاره، ثم عاد يحمل جثته بين ذراعيه، فهل نقول إن عمله كان بلا فائدة لأنه لم يكن ناجحا..!؟ إنها الأخلاق، التي تدور في إطار غير مادي، هي التي تضفي القيمة على هذه التضحية عديمة الفائدة، لهذه المحاولة التي لم تنجح».
وكما يقول بيجوڤيتش: فإن التضحية «تمثل ظهور مبدأ جديد [خطًّا فارقًا ملموسًا فاصلاً] بين الإنسان والحيوان. لكن هذا المبدأ مناقض لمبدأ المصلحة والمنفعة والحاجات. المصلحة حيوانية، أما التضحية فهي إنسانية» (والأفكار الأساسية في السياسة والاقتصاد السياسي لا تتعامل مع التضحية وإنما تتعامل مع المصلحة والمنفعة).

إن الأخلاق الحقيقية ليست مربحة.. «ويمكن تصور مواقف عديدة يكون الظلم فيها والكذب هما المفيدين [من الناحية المادية]. وبالمثل، فإن التسامح الديني والسياسي والعرقي والوطني ليس مفيدًا بالمعنى [المادي] المعتاد للكلمة، أما تدمير الخصوم مثلا.. فهو أكثر فائدة من وجهة النظر العقلية [المادية] البحتة. فحماية العجزة والمقعدين، أو العناية بالمعوقين والمرضى الذين لا أمل في شفائهم، كل ذلك ليس من قبيل السعي وراء الفائدة. فالأخلاق لا يمكن أن تخضع لمعايير المنفعة. نعم.. قد يكون السلوك الأخلاقي أحيانًا مفيدًا، ولكن ليس معنى هذا أن شيئا قد أصبح أخلاقيا لأنه أثبت فائدته في فترة ما من فترات الخبرة الإنسانية. على العكس.. فهذه الخبرة نادرة الحدوث».

التقدم والأخلاق

التقدم يعتبر مفهوما محوريا في الحضارة الغربية (في الإطار المادي)، واذا نظرنا له من إطار علاقته بالأخلاق. فستتجلى لنا «عقدة الإنسان البدائي» وهي قيام الإنسان البدائي بأفعال تتناقض وتطوره وتقدمه المادي مثل مفهوم المحرمات والعبادة والفن. فبينما كانت الحيوانات تحقق صعودًا في سلم التطور، نجد الإنسان يكبّل نفسه بالتزامات أخلاقية تجعله يتعثر. فهل هذا يعني تقدم الحيوان وتخلف الإنسان..!؟

المساواة

إن هذا المفهوم لا يمكن أن يتحقق في الإطار المادي. فلو نظرنا إلى البشر ورصدناهم بطريقة علمية مادية لوجدنا التفاوت بينهم في الصفات، فهذا بَدين وذاك نحيفٌ، وهذا ذكي وذاك غبي، وهذا جمجمته كبيرة وذاك جمجمته صغيرة، وهذا أبيض وذاك أسود، وهذا أصفر وذاك أحمر. وبناء على هذا الاختلاف يمكن أن نختار فنقرر ألا يبقى إلا الأذكياء، أما الأغبياء فلنتخلص منهم، بمعنى أن عملية الرصد أو عملية الحكم العلمية المادية لا تنطوي على فكرة المساواة على الإطلاق.
ولكن ثمة علاقة بين فكرة المساواة بين الناس وفكرة الخلود. ومن ثم نجد أن «أخلاقيات الأديان السماوية وحدها تسلّم بجلاء لا لبس فيه بمساواة جميع البشر باعتبارهم مخلوقات الله. أما النظم الدينية والأخلاقية التي لا تعترف بالخلود أو لديها فكرة مشوشة عنه، فهي لا تعترف بالتالي بهذه المساواة. فإذا لم يكن الله موجودًا، فإن الناس بجلاء وبلا أمل غير متساوين».

الفن والدين

أن الفن (شأنه شأن الأخلاق والدين وكل الظواهر الروحية) يتجاوز الرؤية المادية، ولذا لا يمكن تفسيره تفسيرًا ماديًّا. فالعلم (الذي يدور في الإطار المادي) يعطينا صورة دقيقة عن العالم، ولكنها صورة خالية من «الحياة» ومن الروح، مما يجعل الإنسان خلوًا من الإنسانية، فالهيكل العظمي للإنسان، مهما كانت دقته وفائدته، ليس هو الإنسان الفرد في نبله وخسته، وفي عظمته وضعفه. إن العلم في علاقته بالإنسان ممكن فقط، إذا كان الإنسان حقا جزءًا من العالم أو نتاجا له. على عكس ذلك نجد الفن، فاللوحة الفنية لا تُحلّل إلى كمية الألوان المستخدمة فيها، والمسجد لا يمكن أن يُرد إلى عدد الأحجار والأعمدة الخشبية المكونة له، «الفن ممكن فقط إذا كان الإنسان مختلفًا عن الطبيعة، إذا كان غريبا فيها، إذا كان هوية متميزة».
وهذا يلفتنا إلى ظاهرة إنسانية مميزة أخرى وهي رغبة الإنسان في تجميل نفسه، فالناظر يستطيع ان يميز بوضوح بين هذه الرغبة الجمالية وحاجته (المادية) لتغطية جسمه وحمايته.. «هذه الحقيقة يمكن تتبعها من عصور ما قبل التاريخ حتى اليوم».

الإسلام والثنائية التكاملية

أن هناك ثلاث وجهات نظر عن العالم:
1 ـ الرؤية المادية التي ترى العالم باعتباره مادة محضة، وهي فلسفة تنكر التطلعات الروحية للإنسان. والاشتراكية مثل جيد على هذه الفلسفة، فهي تقدم خلاصا خارجيا فقط (من خلال الاستهلاك وتحسين مستوى الدخل أو تغيير البيئة الاجتماعية... إلخ).
2 ـ الرؤية الدينية المجردة (أو الروحية الخالصة)، وهي رؤية للدين باعتباره تجربة روحية فردية خاصة لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية بالله، وهذه الرؤية تنكر الاحتياجات المادية للإنسان. والمسيحية مثل جيد على هذه الرؤية، فهي تقدم خلاصًا داخليًّا فحسب.
إن أي حل يغلّب جانبًا من طبيعة الإنسان على حساب الجانب الآخر من شأنه أن يعوق القوى الإنسانية أو يؤدي إلى الصراع الداخلي. فالحياة، كما يقول علي عزت بيجوڤيتش، «مزدوجة، وقد أصبح من المستحيل عمليًا أن يحيا الإنسان حياة واحدة منذ اللحظة التي توقف فيها أن يكون نباتًا أو حيوانًا».

3 ـ ثمة رؤية ثالثة تعترف بالثنائية الإنسانية، وتحاول تجاوزها عن طريق توحيد الروح والمادة، وهذه هي الرؤية الإسلامية. إن الإسلام يخاطب كل ما في الإنسان ويتقبله. ان المسلم العقال يعلم بأن الإسلام وُجد قبل الإنسان، وهو ـ كما قرر القرآن بوضوح ـ المبدأ الذي خُلق الإنسان بمقتضاه، ومن ثم نجد انسجاما وتطابقا فطريا بين الإنسان والإسلام. «الإنسان هو وحدة الروح والجسد، [وكذا] الإسلام.. [فهو أيضًا] وحدة بين الاتجاه الروحي والنظام الاجتماعي، وكما أن الجسم في الصلاة يمكن أن يخضع لحركة الروح، فإن النظام الاجتماعي يمكن بدوره أن يخدم المُثل العليا للدين والأخلاق».

إن الإسلام انطلاقا من إدراك ثنائية الإنسان «لا يتعسف بتنمية خصال لا جذور لها في طبيعة الإنسان. إنه لا يحاول أن يجعل منا ملائكة؛ لأن هذا مستحيل. بل يميل إلى جعل الإنسان إنسانا. في الإسلام قدر من الزهد، ولكنه لم يحاول به أن يدمر الحياة أو الصحة أو الأفكار أو حب الاجتماع بالآخرين، أو الرغبة في السعادة والمتعة. هذا القدر من الزهد أريد به تحقيق التوازن في غرائزنا، أو توفير نوع من التوازن بين الجسد والروح. إن القرآن يتناول الغرائز متفهما لا متهما، ولحكمة ما سجدت الملائكة للإنسان. ألا يشير هذا السجود إلى معنى تفوق ما هو إنساني على ما هو ملائكي؟».

هذه الثنائية هي سبب سوء فهم العقل الغربي لهذا الدين، وهو سوء فهم لا يزال مستمرًا إلى هذا اليوم، «فمن جانب الدين [الروحي المجرد] اتُّهم الإسلام بأنه أكثر لُصوقًا بالطبيعة والواقع مما يجب، وأنه متكيف مع الحياة الدنيا. واتهم من جانب العلم أنه ينطوي على عناصر دينية وغيبية. وفي الحقيقة هناك إسلام واحد وحسب، ولكن شأنه شأن الإنسان له روح وجسم. فزعم التعارض فيه يتوقف على اختلاف وجهة النظر. فالماديون لا يرون في الإسلام إلا أنه دين وغيب، أي اتجاهًا «يمينيًّا». بينما يراه المسيحيون فقط حركة اجتماعية سياسية، أي اتجاهًا «يساريًّا»! وفي واقع الأمر، ليس الإسلام هذا ولا ذاك، وإنما هو يجمع بينهما في كلّ واحد متكامل متوازن.

تجلّيات الثنائية الإسلامية

تظهر الثنائية الإسلامية التفاعلية أو التكاملية في الرؤية الإسلامية لمفهوم الأمة. فالإسلام ليس مجرد أمّة بالمعنى البيولوجي أو الإثنيّ أو العرقي، وليس حتى جماعة دينية بالمعنى الروحي الخالص للكلمة، وإنما هو «دعوة لأمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أي تؤدي رسالة أخلاقية». انطلاقًا من ذلك يؤكد علي عزت بيجوڤيتش أنه لا يمكن إغفال المكوّن السياسي للإسلام وقصره على النزعة التصوفية الدينية، لأن في هذا «تكريسا صامتا للتبعية والعبودية». ولا يمكن كذلك إغفال المكون الديني (الروحي) في الإسلام؛ لأن في هذا كذلك رفضًا صامتًا للقيام بالأعباء الأخلاقية. إن الإسلام الحقيقي ليس مجرد دين روحي أو طريقة حياة فقط، بل هو منهج ومبدأ لتنظيم الكون أكثر منه حلا جاهزًا، إنه المركب الذي يؤلف بين المبادئ المتعارضة. إن الإسلام ليس دينا ودولة كما يقول البعض (الذين وقعوا صرعى التعريفات العلمانية الغربية، والتي تعطي مركزية هائلة للدولة)، بل هو دين ودنيا يتوجه للجانبين الروحي والمادي في الإنسان.

أن الثنائية التكاملية الإسلامية تتبدى في أن للإسلام مصدرين أساسيين: هما القرآن والسنة النبوية، فهما يمثلان كلا من الإلهام والخبرة، الخلود والزمن، التفكير والممارسة، الفكرة والحياة. ثم يضيف إلى النظام الثنائي حالة كل من مكة وغار حراء. فقد كانا يمثلان عند لحظة ظهور الإسلام التضاد بين الواقعي والعالم الباطني، بين الفاعلية والتأمل. وقد تطور الإسلام على مرحلتين، الأولى في مكة والثانية في المدينة.. فترتين سُجل اختلافهما في الروح والمعنى في كل ما كُتب عن تاريخ الإسلام. هنا تصادف التضاد نفسه أو «التناقض الظاهري» في إطار الإيمان والسياسة.. مجتمع الإيمان ومجتمع المصالح.

ثم يحاول أن يوضح رؤيته للثنائية الإسلامية من خلال عقد مقارنة بين الإسلام والمسيحية كنظرية (وليس كتطبيق) باعتبارها دينا روحيا محضا. وهي مقارنة تنطوي على احترام للعقيدة المسيحية، ولا تشكل هجومًا عليها بمقدار أنها محاولة لتوضيح سمات الإسلام الأساسية.
فيقارن بين قاموس المفردات المستخدمة في الأناجيل وتلك التي وردت في القران، فيستخلص أن الأناجيل أكثر لصوقا بعالم الروح، بينما في القرآن، نجد المصطلحات نفسها مُصاغة على صورة هذا العالم وقد اكتسبت واقعية وتحديدًا.

ثم يعقد مقارنة بين المسجد والكنيسة، ويخلص إلى نفس النتائج، فالمسجد مكان للناس، أما الكنيسة فهي «معبد الرب». في المسجد يسود جو من العقلانية، وفي الكنيسة جو من الصوفية. المسجد بؤرة نشاط دائم وقريب من السوق في قلب المناطق المعمورة بالسكان، أما الكنيسة فتبدو أقل التحاما ببيئتها. يميل التصميم المعماري للكنيسة إلى الصمت والظلام والارتفاع، إشارة إلى «عالم آخر». «عندما يدخل الناس كاتدرائية قوطية يتركون خارجها كل اهتمام بالدنيا كأنهم داخلون إلى «عالم آخر». أما المسجد، فمن المفروض أن يناقش الناس فيه بعد انتهائهم من الصلاة هموم دنياهم».

وقد نتج عن هذا الاتجاه ظاهرة لا تُعرف إلا في إطار الثقافة الإسلامية وهي ما يمكن أن يطلق عليه «المسجدْرسة»، وهو بناء فريد يجمع بين وظيفتي المسجد والمدرسة معا.. هذا البناء المتميز هو المعادل المعماري لتلك المسلَّمة الإسلامية لوحدة الدين والعلم أو الروح والمادة.
ويتضح الاختلاف أيضا في المقارنة بين مبدأ العصمة البابوية من جهة، ومبدأ الإجماع الإسلامي من جهة أخرى. فالأول ينطلق من مبدأ واحدي نخبوي، والثاني ينطلق من رؤية مركبة تجمع بين نقيضين. فمبدأ العصمة يعطي فردًا واحدًا حقا مطلقا في تقرير ما هو الخطأ وما هو الصواب، أما فكرة الإجماع عند الإمام الشافعي مثلا فتعني اتفاق جميع الآراء، وعند الطبري والرازي: اتفاق أغلب علماء الفقه، أي أن الإسلام يجمع بين مبدأ الصفوة ومبدأ العدد معا. في الإجماع هناك الصفوة النوعية (الأرستقراطية)، كما أن هناك الجانب العددي (الديمقراطي) .
ويتضح الاختلاف بين الإسلام والديانات الروحية المجردة في هذه المقارنة التي يعقدها علي عزت بيجوڤيتش بين ما جاء في الإنجيل وفي القرآن بخصوص العمل وفكرة العدالة.
وتتبدى الثنائية الإسلامية في اهتمام الإسلام بكل من القراءة والكتابة باعتبارهما أقوى محرك للمجتمعات الإنسانية. فلا «غرابة أن يعنى بهما الوحي، فكانت أول ما نزل على محمد ﷺ من آيات القرآن» . وقد تبدو الكتابة غريبة عن الدين (الروحي المجرد). فقد بقيت الأناجيل تقليدًا شفهيا لفترة طويلة من الزمن. وعلى قدر علمنا، بدأت كتابتها بعد جيل كامل من رفع عيسى (عليه السلام). وعلى عكس ذلك، اعتاد محمد ﷺ أن يملي آيات القرآن على كُتّاب الوحي فور نزولها.
وتظهر الثنائية في أن القرآن لا يحوي «حقائق علمية جاهزة، ولكنه يتضمن موقفا علميا جوهريا.. اهتماما بالعالم الخارجي، وهو أمر غير مألوف في الأديان. يشير القرآن إلى حقـائق كثيـرة في الطبيعـة ويدعـو الإنسـان للتفاعل معها. الأمر بالعلم (بالقراءة) لا يبدو هنا متعارضا مع فكرة الألوهية، بل إنه قد صدر باسم الله: ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾. الإنسـان (بمقتضـى هذا الأمر) لا يلاحـظ ويبحث ويفهـم «طبيعة خلقت نفسها»، ولكن الكـون الذي أبدعـه الله. ولذلك فإن الملاحظة ليست بلا هدف، ولا مبالية، ولا خالية من الشوق، وإنما هي مزيج من العلم وحب الاستطلاع والإعجاب الديني. وكثير من أوصاف الطبيعة في القرآن على درجة عالية من الشاعرية».

الثنائية ومفهوم التقدم

انطلاقا من إدراك لثنائية الإنسان (المادة والروح) لابد من نقد مفهوم التقدم المادي الذي يهيمن على الحضارة العلمانية الحديثة، فهذا التقدم لا يؤدي إلى سمو الإنسان، إذ هو منفصل تماما عن القيمة. إن كل تقدم بيولوجي أو تقني في الإطار المادي الدارويني المنفصل عن القيمة يؤدي إلى أن الأقوى يقهر الأضعف، بل ويحطمه.

في مقابل ذلك يوجد رؤية مختلفه. فالحياة نتيجة التفاعل المتبادل بين عاملين مستقلين هما: الأساس المادي والتأثير الخلاق لعامل الوعي الإنساني، متمثلا في الشخصيات القوية والأفكار الكبرى والمُثل العليا. فالوضع التاريخي في أي لحظة من الزمن هو نتيجة التفاعل بين هذين العاملين المستقلين بصفة أساسية، ولذا فالتأثير الإنساني على مجرى التاريخ يتوقف على قوة الإرادة والوعي. وكلما عظمت القوة الروحية للمشارك في الأحداث التاريخية عظم استقلاله عن القوانين الخارجية، والعكس صحيح. والتاريخ قصة متصلة من مجموعات صغيرة من أناس تميزوا بالحسم والشجاعة والذكاء، تركوا طابعا لا يمحى في مجرى أحداث التاريخ وتمكنوا من تغيير مساره. «إن قوة الظروف الموضوعية تتزايد بالنسبة ذاتها التي يتناقص فيها العامل الفردي.. فكلما أصبح هذا (العامل الفردي) خاملا غير فعال، نقص قدره من الإنسانية وزاد نصيبه من الشيئية. إننا نملك القوة على الطبيعة وعلى التاريخ إذا كانت لدينا القوة على أنفسنا. هذا هو موقف الإسلام من التاريخ».
ولذا فهدف التاريخ ليس هو التقدم المادي وإنما أمر مختلف تماما. فالهدف هو خلق إنسان متسقة روحه وبدنه، في مجتمع تحافظ قوانينه ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية على هذا الاتساق ولا تنتهكه (ومن ثم؛ فهذا هو أيضا المفهوم الإسلامي للتقدم).

إن الإسلام بهذا المعنى هو البحث الدائم عبر التاريخ عن حالة التوازن الجواني والبراني. هذا هو هدف الإسلام اليوم، وهو واجبه التاريخي المقدّر له في المستقبل. ولكن علينا اولاً الإقرار ان وحدة الإسلام قد انشطرت على يد أناس قصروا الإسلام على جانبه الديني المجرد، فأهدروا وحدته، وهي خاصيته التي يتفرّد بها عن سائر الأديان. لقد اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية (فتدهورت أحوال المسلمين). ذلك لأن المسلمين عندما يضعف نشاطهم وعندما يهملون «دورهم في هذا العالم» يتوقفون عن التفاعل معه، وتصبح الدولة الإسلامية كأي دولة أخرى، ويصبح تأثير الجانب الديني في الإسلام كتأثير أي دين آخر، وتصبح الدولة قوة لا تخدم إلا نفسها. في حين يبدأ الدين (الخامل) يجر المجتمع نحو السلبية والتخلف، ويشكّل الملوك والأمراء والعلماء الملحدون، ورجال الكهنوت وفرق الدراويش والصوفية، والشعراء السكارى.. يشكلون جميعا الوجه الخارجي للانشطار الداخلي (الذي أصاب الإسلام). وهنا نعود إلى المعادلة المسيحية. «أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله». إن الفلسفة الصوفية (المنكفئة على الأمور الروحية البحتة) والمذاهب الباطنية تمثل ـ على وجه اليقين ـ نمطًا من أكثر الأنماط انحرافا.

وتتبدى الثنائية في بنية القرآن نفسه، الذي يرى البعض أنه «من الناحية الموضوعية لا يتبع نظاما محددًا، ويبدو وكأنه مركب من عناصر متناثرة. ولكن، لا بد أن يكون مفهوما بادئ ذي بدء، أن القرآن ليس كتابا أدبيا، وإنما هو منهج حياة. والإسلام نفسه طريقـة حياة أكثر من كونه طريقة في التفكير. إن التعليق الوحيد الأصيل على القرآن هو القول بأنه «حياة»، وكما نعلم كانت هذه الحياة في نموذجها المجسد هي حياة النبي محمد ﷺ. إن الإسلام في صيغته المكتوبة (أعني القرآن) قد يبدو بغير نظام في ظاهره، ولكنه في حياة محمد ﷺ قد برهن على أنه وحدة طبيعية: من الحب والقوة، المتسامي والواقعي، الروحي والبشري. هذا المركب المتفجر حيوية من الدين والسياسة يبث قوة هائلة في حياة الشعوب التي احتضنت الإسلام. إن الإسلام يتطابق في لحظة واحدة مع جوهر الحياة».

الثنائية وأركان الإسلام الخمسة

أن من المستحيل تطبيق الإسلام انطلاقا من مستوى واحدي، فثنائية المادي والروحي تقع في صميمه. فالصلاة ـ وهي نشاط روحي ـ لا يمكن أداؤها أداءً صحيحًا إلا من خلال إجراءات علمية «بضبط الوقت والاتجاه في المكان، فالمسلمون مع انتشارهم على سطح الكرة الأرضية عليهم أن يتوجهوا جميعا في الصلاة نحو الكعبة مكيفين أوضاعهم في المكان (على اختلاف مواقعهم). وتحديد مواقيت الصلاة تحكمه حقائق علم الفلك. ولا بد من تحديد هذه المواقيت (للصلوات الخمس) تحديدًا دقيقًا خلال أيام السنة كلها، ويقتضي هذا تحديد موقع الأرض في مدارها الفلكي حول الشمس». ولا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للزكاة التي تحتاج إلى إحصاء ودليل وحساب، والحج الذي يتطلب الإلمام بكثير من الحقائق التي يتطلبها المسافر إلى مسافات بعيدة. ولعله بسبب هذه الثنائية تطورت جميع الميادين العلمية في القرن الأول الإسلامي إذ إنها بدأت بمحاولات إقامة الفرائض الإسلامية.
وتتبدى الثنائية في أهم فعل إسلامي وهو عملية النطق بالشهادتين الذي يعلن به الشخص اعتناقه للإسلام. فالنطق لا بد أن يؤدى أمام الشهود؛ لأن الشخص الذي يعتنق الإسلام ـ رجلا كان أو امرأة ـ ينضم إلى جماعة لها جوانبها الاجتماعية والاقتصادية، وهو الأمر الذي تترتب عليه التزامات قانونية، وليس فقط التزامات أخلاقية. فالإنسان الذي يلحق بدين روحي مجرد لا يستلزم وجود شهود ولا يتطلب الإعلان حيث إن هذه علاقة بين الإنسان وربه. فمجرد عقد النية أو اتخاذ قرار باطني كاف تماما بهذا الخصوص. ولكن الإسلام ليس دينًا مجردًا، ولذا يصبح الشهود ويصبح الإعلان أمرًا لازما.

والصلاة هي الأخرى تبدٍّ للثنائية الإسلامية. فالصلاة تؤكد الجانب الروحي، هذا حقيقي. ولكن الصلاة في الإسلام، تشمل أيضا العناصر المادية (الطبيعية). ومن هذه الناحية تنتمي الصلاة إلى عالمنا الذي يحدده الزمان والمكان. هذا الجانب من الصلاة (سمِّه إن شئت الجانب الدنيوي، أو العلمي، أو الطبيعي) يزكي بقوة صفة أخرى، هي الصفة الاجتماعية. فالصلاة ليست مجرد اجتماع الناس لأداء الصلاة في جماعة، ولكنها أيضا مناسبة لتنمية العلاقات الشخصية المباشرة، وبهذا الاعتبار، تكون الصلاة ضد الفردية والسلبية والانعزال. فإذا كانت الحياة تفرق الناس، فإن المسجد يجمعهم ويربط بينهم.

واذا نظرنا إلى الزكاة لوجدنا النمط نفسه، الزكاة في المرحلة المكية كانت تمنح للفقراء على سبيل التطوع (صدقات). ولكن عندما تأسس مجتمع المدينة ـ وهي اللحظة التاريخية التي تحولت فيها الجماعة الروحية إلى «دولة» ـ بدأ محمد ﷺ يطرح الزكاة باعتبارها التزاما قانونيا (فريضة شرعية)، أي ضريبة يدفعها الأغنياء للفقراء. وهي، على حد علمنا، أول ضريبة من نوعها في التاريخ. كأن الإسلام قد أنشأ الزكاة عندما أضاف عنصر الإلزام القانوني إلى المؤسسة المسيحية للصدقة. واستخدام النموذج المركب يمكننا من ربط الصلاة بالزكاة، حيث نشير إلى أن المنطق الذي «حول الصلاة التأملية المجردة إلى صلاة «إسلامية»، هو نفسه الذي جعل من الصدقة التطوعية زكاة واجبة، والنتيجة النهائية أنه حول الدين الروحي المجرد إلى إسلام»، أي إلى دين ودنيا..
ولكن هل الزكاة مجرد ضريبة برانية لمساعدة الفقراء مثل الضرائب التي تفرضها الدولة العلمانية الحديثة؟ لا، فالزكاة تحوي العنصرين: البراني والجواني، المادي والروحي.. «فالفقر ليس قضية اجتماعية بحتة. فسببه ليس في العوز فقط، وإنما أيضا في الشر الذي تنطوي عليه النفوس البشرية. فالحرمان هو الجانب الخارجي للفقر، أما جانبه الباطني فهو الإثم (أو الجشع)، وإلا فكيف نفسر وجود الفقر في المجتمعات الثرية».

ولذا.. «لا يُعالج الفقر بنقل ملكية بعض السلع، وإنما أيضا من خلال التضامن الشخصي، والقصد، والشعور الودّي. فلا شيء يمكن إنجازه على الوجه الصحيح بمجرد تغيير ملكية سلع العالم طالما بقيت في النفوس الكراهية والاستغلال والاستعباد. وهذا هو السبب في إخفاق الثورات الدينية المسيحية، والثورات الاشتراكية جميعا». لأن نصيب كل حل اجتماعي لم يتضمن حلا إنسانيا كان هو الإخفاق في تحقيق أحلامه في العدالة والحرية.

يشير علي عزت بيجوڤيتش إلى ظاهرة فريدة في العالم الإسلامي، وهي ظاهرة الأوقاف، التي يصفها بأنها ثورة هادئة حدثت نتيجة لإصرار التعاليم الإسلامية على العطاء.. فلا تكاد توجد دولة إسلامية واحدة ليست فيها ممتلكات كبيرة مخصصة للأوقاف وخدمة الخير العام. ولم يُذكر الوقف في القرآن، ولكنه لم يظهر في المجتمعات الإسلامية بمحض الصدفة، إنما كان ظهوره نتيجة لسيادة روح التضامن، ولتأثير وظيفة الزكاة التعليمي في المجتمعات المسلمة.

سنجد الثنائية نفسها في الصوم.. «فقد اعتبر المسلمون الصوم خلال شهر رمضان مظهرًا لروح الجماعة. ولذلك فإنهم حساسون لأي انتهاك علني لهذا الواجب. فالصيام ليس مجرد مسألة إيمان.. ليس مجرد مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام اجتماعي. هذا التفسير للصيام كشعيرة دينية غير مفهوم عند الأديان الأخرى. إن الصيام الإسلامي وحدة تجمع بين التنسك والسعادة، بل والمتعة كذلك في حالات معينة.. إنه أكثر الوسائل التعليمية طبيعية وقوة. فالصوم يُمارس في قصور الملوك وفي أكواخ الفلاحين على السواء.. في بيت الفيلسوف وفي بيت العامل»..

واذا نظرنا للركن الخامس من أركان الإسلام وهو الحج (إلى بيت الله الحرام بمكة المكرمة)، حيث أنه لا يمكن فهمه إلا في إطار نموذج مركب، فهو شعيرة دينية وتجربة روحية، ولكنه أيضا تجمّع سياسي، ومعرض تجاري، ومؤتمر عام للأمة.
ويجب التنبيه على أن هذه الثنائية ليست ازدواجية.. «فالإسلام ليس وسطا حسابيا بسيطا، ولا قاسما مشتركا بين تعاليم هاتين العقيدتين. فالصلاة والزكاة والوضوء كينونات لا تقبل التجزئة، لأنها تعبير عن شعور فطري بسيط، إنها يقين مُعبّر عنه بكلمة واحدة وبصورة واحدة فقط، ولكنها مع ذلك تظل ـ منطقيًا ـ تمثل دلالة ازدواجية. والتماثل هنا مع الإنسان واضح، فالإنسان هو مقياسها ومفسرها».


خاتمــة:

أن هناك ظروفًا أساسية في حياة الإنسان يطلق عليها «الأوضاع الحدية» [وهي الأوضاع التي يوجد فيها الإنسان اضطرارًا]. من المؤكد أن واجب الإنسان هو أن يبذل جهده لتحسين كل شيء في هذا العالم بما في مقدوره. ومع ذلك، فسيظل هناك أطفال يموتون بطريقة مأساوية حتى في أكثر المجتمعات كمالا. والإنسان على أحسن الفروض قد يستطيع أن يقلل من كم المعاناة في هذا العالم، ومع ذلك سيبقى الظلم والألم مستمرين. العالم ليس يوتوبيا تكنولوجية، يمكن فهم كل شيء فيها، والتحكم في كل المخلوقات التي تسير فيها، إذ سيظل هناك المجهول وغير المتوقع.. سيظل هناك الخير والشر.

ماذا يفعـل الإنسـان في مواجهـة ذلك؟ هنــاك إجابتان مختلفتان عـن السـؤال نفسـه، الأولى هي التمـرد والتحـريف والانحراف والعـدمية. ولكن هناك أيضا التسليم لله، والاعتراف بالقدر، أي الاعتراف بالحياة على ما هي عليه، وقرار واع بالتحمل والصمود والتجمّل بالصبر. والتسليم لله هو ضوء يانع يخترق التشاؤم ويتجاوزه.. إنه قوة جديدة، وطمأنينة جديدة. الشعور بالأمن لا يمكن تعويضه بأي شيء آخر. ولا يعني التسليم لله السلبية في موقف الإنسان، كما يظن كثير من الناس الخاطئين. إن طاعة الله تستبعد خضوع البشر للبشر. إنها صلة جديدة بين الإنسان وبين الله، ومن ثم بين الإنسان وأخيه الإنسان.

«أن الإسلام لم يأخذ اسمه من قوانينه ولا نظامه ولا محرماته، ولا من جهود النفس والبدن التي يطالب الإنسان بها.. وإنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه: من لحظة فارقة تنقدح فيها شرارة وعي باطني.. من قوة النفس في مواجهة محن الزمان.. من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود من أحداث.. من حقيقة التسليم لله. إنه استسلام لله.. والاسم: إسلام».
والله أعلم



تعديل من الإشراف :
المرجو ذكر المصدر عندما يكون الموضوع منقولا.

https://books.google.de/books?id=1ew...page&q&f=false

Agno 04-22-2018 02:11 PM

نسخ و لصق كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب"

كلام حشو لا فائدة منه

https://books.google.de/books?id=1ew...page&q&f=false

و اضن ان الموضوع الذي يستحق النقاش هو لماذا تركت الاسلام

لأن اغلب من في المنتدى كان مسلم و ترك الاسلام ... و هو يعرف جيدا لما ترك الاسلام و ليس شخص مسكين يقرأ عن الاسلام من المصادر المترجمة التي تخفي الكثير من التناقضات و تقدم الاسلام على انه دين جميل و متكامل

لا أدري 04-22-2018 02:13 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة agno (المشاركة 163101)
نسخ و لصق كتاب "الإسلام بين الشرق والغرب"

كلام حشو لا فائدة منه

اثبت ذلك بالمنهاج العلمي

https://books.google.de/books?id=1ew...page&q&f=false




عالعموم شكراً لك كنت افكر بأن اضع الكتاب كمصدر لمن اراد الاستزاده .. :9:

Agno 04-22-2018 02:16 PM

اقتباس:

اثبت ذلك بالمنهاج العلمي
عبئ الاثبات عليك و ليس علي

الكتاب لا يعطي اي مصادر لأفكاره مجرد كلام انشائي ليس له اي وزن من المنضور العلمي

خصوصا عندما يتكلم في نضريات علمية و في الطبيعة النفسية للانسان و تقديم افكار خاطئة عن ان الحيوانات لا تملك ارادة و انها تقوم بكمليات اوتوماتيكية ....

تخاريف في تخاريف

لا أدري 04-22-2018 02:20 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة agno (المشاركة 163104)
عبئ الاثبات عليك و ليس علي

الكتاب لا يعطي اي مصادر لأفكاره مجرد كلام انشائي ليس له اي وزن من المنضور العلمي

خصوصا عندما يتكلم في نضريات علمية و في الطبيعة النفسية للانسان و تقديم افكار خاطئة عن ان الحيوانات لا تملك ارادة و انها تقوم بكمليات اوتوماتيكية ....

تخاريف في تخاريف



كنت اتوقع اسمع رد اكثر علمية، عموماً شكراً على مرورك

Agno 04-22-2018 02:23 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لا أدري (المشاركة 163106)
كنت اتوقع اسمع رد اكثر علمية، عموماً شكراً على مرورك

كنت اتوقع ان ارى مصادر و روابط لأبحاث علمية و ليس كلام انشائي و تخاريف

النبي عقلي 04-22-2018 02:31 PM

مواضيع ( نسخ و لصق )
تريد أن تجهدنا بالردود ولم تجهد نفسك في البحث عن الحقيقة
فواقعاً كما تعطي سيكون العطاء والجواب

لا أدري 04-22-2018 02:41 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة النبي عقلي (المشاركة 163110)
مواضيع ( نسخ و لصق )
تريد أن تجهدنا بالردود ولم تجهد نفسك في البحث عن الحقيقة
فواقعاً كما تعطي سيكون العطاء والجواب

شكرررراً على مرورك :9:

لا أدري 04-22-2018 02:42 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة agno (المشاركة 163107)
كنت اتوقع ان ارى مصادر و روابط لأبحاث علمية و ليس كلام انشائي و تخاريف

معليش آسفين :9:

Skeptic 04-22-2018 03:43 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لا أدري (المشاركة 163099)
فلو نظرت مثلاً للتصور الدارويني (المادي) للإنسان، في إشكالية الأصل. فكل المخلوقات حسب التصور الدارويني المادي ترجع إلى الأشكال البدائية للحياة (الأميبا)، والتي ظهرت بدورها نتيجة عملية طبيعية كيميائية [مادية]. إن الإنسان في الحقيقة (من هذا المنظور) إنْ هو إلا حيوان تطور من المادة إلى الأميبا، والأميبا تطورت حتى وصلت إلى القردة العليا، ومنها إلى الإنسان «الذي اتجه نحو الكمال الجسمي والفكري ومنه إلى الذكاء الخارق. فالتطور من حيث هو حيواني وخارجي في جوهره بسيط ومنطقي أو نفعي ووظيفي، لأنه ظل محدودًا في نطاق الطبيعة/المادة». إن «التطور» بطبيعته (وبغض النظر عن درجته في التعقيد أو الحقبة الزمنية التي استغرقها) لم يستطع أن ينتج إنسانا، وإنما مجرد

تحياتي للجميع
مقاله توضح معضلة شعوبنا ومدي المتاجرة والأساطير والخرافات من أجل سرقة مستقبل تلك الشعوب.
عندما يتحدث رجل الدين عن نظرية التطور دائما يظهر جهله تماما بها.
رجل الدين دائما يأخذ كائن حديث مثل القرود أو حتي الاميبا ويدعي أن نظرية التطور تدعي تطور هذا من هذا.
https://encrypted-tbn2.gstatic.com/i...am0S7-Cnx5Jr05
هذا غير حقيقي.. كلنا علي نفس سلم التطور....
نظرية التطور تبدأ منذ أول كائن قادر علي تكرار نفسة بنفسة وهذا لم يكن خلية حديثة ولكن يعتقد حاليا مركبات rna قادرة علي التكرار.
لذلك رجل الدين عندما يتحدث عن نظرية علمية، ليس من علم ولكن ليكذب ويضلل القارئ فقط.
تحياتي


الساعة الآن 08:50 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd diamond

 .::♡جميع المشاركات والمواضيع المكتوبة تعبر عن وجهة نظر كاتبها ,, ولاتعبر عن وجهة نظر إدارة المنتدى ♡::.


Powered by vBulletin Copyright © 2015 vBulletin Solutions, Inc.