عرض مشاركة واحدة
قديم 11-24-2016, 09:26 PM   رقم الموضوع : [21]
ساحر القرن الأخير
زائر
 
افتراضي

فسحة دراسية :



من النافذة يدخل الهواء النقي ....وتدخل أشعة الشمس الذهبية.
السبت الرابع من نونبر 1995 , رمى الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز بنفسه من نافذة شقته في باريس , ليفارق الحياة عن عمر السبعين . كان يعاني من مشاكل تنفسية شديدة ألزمته العيش بآلة تنفس . من الوارد جدا أن اختياره للموت كان بهدف انهاء معاناته بسبب المرض. هل ينفي ذلك صفة الانتحار عن فعله ؟ لا , يبقى انتحارا , لأن كل انتحار انما يكون لإنهاء معاناة , جسدية كانت أو نفسية .

للنافذة رمزية خاصة , مثبتة على جدار العالم الداخلي ( البيت) , تشكل بابا مفتوحا على عالم آخر (العالم الخارجي) . الذي يقفز من النافذة لا شك وأنه يسعى الى الخروج من ذاته , من بيته الداخلي , الى العالم , الى خارج الذات. كأنه سئم من تلك الجوانية المظلمة الضبابية , وأراد الولوج الى البرانية , العالم الخارجي المضيء المحسوس واضح المعالم . أرجح بشكل كبير التفسير الذي قدمناه للتو, ان لم يكن القفز فقط محاولة لتقليد العصافير الجميلة أو تحديا لقانون الجاذبية. خاصة عندما يكون بيتك (أو غرفتك) جحرا من الجحور , وكرا من الأوكار عشت حياتك منكفئا فيه على نفسك...فتقرر في لحظة معينة , أن تخرق تلك الانعزالية وذلك التقوقع على الذات عبر القفز من أقرب نافذة لك . انها نهاية تراجيدية , عنيفة , شجاعة , مضحكة, تعبر عن عنفوان ...القفز من النافذة . كم هذا جميل ...مثل ماذا ؟؟ مثل عصفور يخرج من باب قفصه لأول مرة. ليعذرني القارئ لأنني لم أجد لسلوك دموي كذاك الا مثالا رقيقا كهذا.

شيء آخر ينبغي أن ننتبه اليه , وهو أن النافذة كانت طيلة الوقت هناك , هناك بجانبنا. انها تعرض نفسها علينا كل صباح وكل مساء ,لكننا نتعفف ونغض البصر , تعرض نفسها كمخرج للطوارئ , كوسيلة ننهي بها كل هذا الهراء. لكننا نتجاهلها لمدة طويلة , ثم يأتي يوم نقفز فيه , بكل رشاقة : لقد كانت قدرنا منذ البداية !

يبدو أن للبيت مخرجان , الباب والنافذة. أما الباب , فهو مخرج نخرج منه كل صباح دون أن يتغير أي شيء. نخرج من الباب للانخراط في الحياة اليومية الروتينية . واذا كان الأمر كذلك , فانه من الطبيعي أن يتساءل المرء عن الذي سيتغير اذا ما قرر الخروج يوما من النافذة بدل الخروج من الباب .

القفز من النافذة ليس بالأمر السهل , ويتطلب شجاعة لا مثيل لها . اننا نخاف من القفز من النافذة , بل ونرتعب من ذلك الى حد الاشمئزاز. واذا خيرنا الناس الذين يرغبون في الانتحار بين مجموعة من الخيارات الانتحارية , فسيكون خيار الارتماء من النافذة الأخير في قائمة اختياراتهم . ذلك أنها طريقة مؤلمة جدا ( على الأقل هذا ما نتصوره) سواء في ما يخص السقوط نفسه من مكان عالي (لا شك أنكم جربتم الملاهي التي تنزل فيها المقطورة من مكان مرتفع بسرعة جنونية ) أو في ما يخص الارتطام العنيف بالأرض , والذي يخيل الينا أنه سيكون مثل صعقة كهربائية قدرتها ألف جيغاوات. حقا انه كابوس !

اذا تصورت نفسك في هذه الحياة مثل شخص على سفينة تبحر في المحيط , وكنت تريد أن تعبر عن عدم رغبتك في مواصلة الرحلة , فماذا ستفعل ؟ لا شك أنك ستقفز من السفينة . لهذا كان القفز خيار عدد لا يستهان به من المنتحرين , سواء أكان قفزا من النافذة , أو قفزا في نهر , المهم أنه قفز من المكان الصلب (الأرض) الى المكان المائع (ماء أو هواء).

القفز من النافذة أيضا وسيلة ناجعة جدا تعبر بها عن رغبتك في انهاء تلك السخافة الطويلة في رمشة عين , انهاءها بشكل أسخف منها . فاذا كنت الآن في شقتك وأردت انهاء الأمور في أقل وقت ممكن , فلن تجد أحسن من القفز من النافذة . كل الخيارات الأخرى تتطلب وقتا . مثلا , احتساء السم سيتطلب الذهاب خارجا والبحث عنه وجلبه الى البيت , كذلك قطع الشريان يتطلب الذهاب الى المطبخ واختيار سكين حاد وقطع المعصم وبانتظار أن ينزف الدم كفاية . أما القفز من النافذة , فلا يتطلب منك سوى خطوتين أو ثلاثة ...خطوتين أو ثلاثة , بالتمام والكمال . احسب عدد الخطوات التي تفصلك عن نافذتك الآن ثم أجبني ان كنت مصيبا أم لا.

ربما تكون النافذة هي الخطوة الأخيرة التي ينبغي القيام بها....من يدري ؟ سلوك جيل دولوز , الفيلسوف الذي ألف الكتب وألقى المحاضرات , عاش الحياة بمسراتها وأحزانها , سبعين سنة , سلوكه النهائي الذي ختم به الرحلة , يدعونا حقا الى التساؤل : أتراها الخطوة الأخيرة التي ينبغي القيام بها ؟ مغادرة الحياة بتلك الطريقة البسيطة المثيرة للضحك ؟؟!

ينبغي قبل كل شيء ...عدم التسرع وأخذ الوقت الكافي ...كما يبدو لي أن دولوز قد فعل !



  رد مع اقتباس