شبكة الإلحاد العربيُ  

العودة   شبكة الإلحاد العربيُ > ملتقيات في الإلحاد > في التطور و الحياة ☼

إضافة رد
 
أدوات الموضوع اسلوب عرض الموضوع
قديم 07-15-2016, 07:34 PM فينيق غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [1]
فينيق
عضو ذهبي
الصورة الرمزية فينيق
 

فينيق is on a distinguished road
افتراضي كيف دجَّنَ القمح الكائن البشريّ؟



تُعلّمنا كتب التاريخ أنّه بفضل ذكاء الكائن البشريّ، قد تحوّل من مجرّد كائن بسيط صيّاد – ملتقط للثمار إلى كائن متحكّم بالطبيعة من لحظة تجيير أنواع حيّة حيوانية ونباتية لمصلحتنا سواء عبر التدجين الحيواني أو زراعة النباتات حيث حدث ما أسموه الثورة النيوليتية / الزراعية بوقت لاحق. لكن يمكن أن تكون هذه القصّة غير صحيحة، فيما لو يجري تحليلها من خلال المنظور التطوريّ.

من منطلق المركزية البشرية، ذهب الكائن البشريّ لتصنيف الحيوانات " كعنصر أرقى أو أعلى أو متفوّق " على النباتات، فيما وجد بأنّ الحشرات دوماً " أقلّ قيمة " من الأسماك، والتي بدورها تواجه الزواحف أو الثدييات كما هو مفترض، حتى الوصول إلى الرئيسيّات وأخيراً دون شكّ نوعنا البشريّ. يكون هذا التفكير التقسيمي الهرميّ للأنواع الحيّة خاطيء، حتى لو جرى بصورة غير واعية أحياناً، ملوِّثاً لأيّ دراسة للطبيعة، سيما حين يندرج ضمنها الإنسان العاقل.

مع هذا وجد الباحثون في العالم الطبيعيّ، والذين أمضوا قرون بدراسة العلاقات المعقدة القائمة بين مختلف الأنواع الحيّة المتفاعلة في نظام بيئي محدد، بأنّ القاعدة التبسيطية لوجود نوع حيّ " أكثر تعقيد " أو " متفوّق " يتحكم بنوع حي آخر " أكثر بدائيّة " تكون خاطئة كليّاً في عدد لا يُحصى من المناسبات.

هكذا نجد على سبيل المثال، أنّ كائن أوّلي protozoo يكون قادر على تحطيم كائن من الثدييات مثل الفأر { أو ربما كائن فائق القوّة، كما يجري تصويره، مثل الكائن البشريّ } دون امتلاك أيّ إرادة خاصة وبخضوع كامل لنزوات تكاثرية لهذا الكائن المتناهي بالصغر الوضيع!


يوجد مثال آخر ملفت للانتباه، هو كيف يتسنى لأنواع نبات { مقابل قليل من الماء المُحلّى وبضع ألوان مميزة } جذب أنواع هائلة من الحشرات والطيور الجميلة والتي تخدمها تطورياً، علماً أنّ النباتات تخلو من أيّ جهاز عصبيّ { طبعا لا تمتلك النباتات دماغ } وتتحكم لأجل غاياتها الخاصة التكاثرية بطيور تمتلك أدمغة معقدة نسبياً.




حسناً، فيما لو يجري تحليل " الثورة الزراعية " اعتباراً من وجهة نظر تطورية بحتة، ربما لن نجد ما نقوله أكثر مما تعلمناه بصغرنا ويطربنا كميزة ذكاء وتقدُّم بشريّ، وهذا لا يُشكّل سوى قناع جميل يتوخى إخفاء حقيقة الواقع البائسة. ولكي نبرهن على هذا الأمر، لن نجد أفضل من الاستشهاد برأي المؤرّخ Yuval Noah Harari المأخوذ من كتابه الهام " من الحيوانات إلى الآلهة "، الذي يقول:

شكّلت الثورة الزراعية أكبر عملية احتيال قد حدثت في التاريخ. مَنْ كان المسؤول عن هذا؟

لم يكن المسؤول لا ملوك ولا كهنة ولا تُجّار. كان المسؤول عن هذا حفنة من النباتات! كان بينها القمح، الأرز والبطاطا. دجَّنَتْ هذه النباتات الإنسان العاقل Homo sapiens وليس العكس!!!



لنفكّر للحظة في الثورة الزراعية انطلاقاً من القمح. منذ ما يقرب من 10000 عام، كان القمح عبارة عن عشبة بريّة لا أكثر، عشبة بين كثير من الأعشاب وقتها، وقد اقتصر توزُّعها على مساحة صغيرة من منطقة الهلال الخصيب / شرقي المتوسط.

بصورة مفاجئة، وبالكاد بمرور بضعة آلاف من السنين من وقتها، انتشر القمح في طول العالم وعرضه. بحسب المعايير التطورية الأساسيّة للبقاء على قيد الحياة والتكاثر، تحوَّل القمح إلى أكثر النباتات نجاحاً في تاريخ الأرض. في مناطق مثل السهول الكبرى بشمال أميركا، حيث لم تعرف القمح منذ 10000 عام ولا يكن فيها ولا سنبلة بريّة واحدة منه، نجد بالوقت الراهن مساحات هائلة مزروعة بالقمح حيث لا نجد نظير لها بكل أنحاء العالم. على امتداد العالم، تبلغ مساحة الأراضي المزروعة بالقمح حوالي 2.25 مليون كيلو متر مربع، أي ما يقرب من عشر أضعاف مساحة بريطانيا.


السؤال: كيف انتقلت هذه العشبة من أن تكون بلا أيّة أهميّة { عندما كانت بريّة } لتصبح موجودة في كل مكان بالوقت الراهن؟


تحكّم الإنسان العاقل بالقمح بما يوافق مصلحته. عاش هذا القرد حياة مريحة نسبياً، مارس الصيد والتقط الثمار حتى ما قبل 10000 عام، ومن وقتها بدأ بصرف كثير من الجهود في زراعة القمح. بمرور ألفي عام من وقتها، كرّس البشر بكثير من الأماكن في العالم، معظم وقتهم، في الاهتمام بنباتات القمح. لم يكن الأمر سهلاً. لقد تطلّبت زراعة القمح منهم الكثير. حيث لا يرتاح القمح لتربة صخرية مليئة بالحصى، الأمر الذي دفع بالإنسان العاقل لتنظيف الأراضي من هذه الأمور.

لا يقبل القمح بتقاسم مكان زراعته ومياهه وأغذيته مع نبات آخر، وهذا ما يُوجِبْ على الفلاحين القيام بتطهير مكان زراعة القمح من كل عشب موجود وتخصيص ساعات طِوالْ لهذا الأمر. أصيب القمح بالأمراض، وهذا ما أجبر الانسان العاقل على اليقظة في مراقبته للقضاء على كل أنواع الديدان المتطفلة والصدأ. توجّب على الفلاحين الانتباه لتوفير الحماية للقمح من مهاجمين محتملين يحبون تناوله مثل الأرانب، الجراد وغيرها. يعشق القمح المياه، ولهذا توجب على البشر حفر الآبار وجرّ مياه الأنهار لسقايته. يكون القمح نبات جشع غذائياً، وهذا ما حدا بالإنسان العاقل لجمع روث الحيوانات لتغذية التربة التي ينمو فيها القمح.


لم يكن جسد الإنسان العاقل مؤهلاً لحمل كل تلك المتاعب / المهام. كان متكيفاً مع تسلّق شجرة التفاح والجري خلف الغزلان، وليس لتنظيف الحقول من الصخور والحصى وحفر قنوات مياه للسقاية.

دفع كلّ من العمود الفقري، الركبتين، الرقبة وقوسي القدمين الثمن.

تُشير الدراسات التي أجريت على هياكل عظمية قديمة لأنّ الانتقال إلى الزراعة قد تبعه سلسلة من التبعات الصحيّة مثل خلع في الفقرات والتهابات وفتق.

كذلك استلزمت تلك المهام الزراعية الجديدة المزيد من الوقت الذي أجبر تلك الناس على الإقامة بصورة دائمة بجانب حقول قمحهم. هذا غيّر بصورة تامة نمط حياتهم. لم نقم بتدجين القمح، يأتي مصلطح " تدجين domesticar " من الكلمة اللاتينية domus وتعني " منزل ". مَنْ يعيش في المنزل؟؟ مؤكد لا يكون القمح! بل يكون الإنسان العاقل!!


كيف تمكّن القمح من إقناع الإنسان العاقل لكي يُغيّر حياته الجيدة نسبياً باتجاه وجود يتميز بقساوة أكبر؟ ما الذي وفّره له بالمقابل؟

مؤكد، أنه لم يوفّر له نظام غذائي أفضل. يجب التنويه هنا لأنّ البشر يكونوا قرود قارتة { تأكل كل شيء } لمجموعة متنوعة جداً من الأغذية. حيث وفّرت الحبوب جزء بسيط جداً من النظام الغذائي البشريّ قبل الثورة الزراعية. يكون النظام الغذائي المؤسس على البقوليات فقير بالمعادن والفيتامينات، صعب الهضم وسيّء على الأسنان واللثّة في الواقع.

لم يمنح القمح الأمن الاقتصادي للناس. تكون حياة الفلاّح أقلّ أماناً من حياة صيّاد – مُلتقط للثمار. اعتمد الصيادون – ملتقطو الثمار على عشرات الأنواع الحيّة لأجل بقائهم على قيد الحياة، وبالتالي أمكنهم مقاومة السنوات العِجاف دون امتلاكهم مخازن طعام محفوظ حتى. ففيما لو يقلّ حضور نوع معيّن، أمكنهم التقاط وصيد أنواع أخرى.

حتى وقتٍ قريب، أسست المجتمعات الزراعية القسم الأكبر من الحريرات التي تحصل عليها على مجموعة صغيرة من النباتات المُدجّنة. كما أنه بمناطق كثيرة، قد أسسوا نظامهم الغذائي على نبات واحد كالقمح، البطاطا أو الأرز. فيما لو تقلّ الأمطار أو تظهر الفطريات أو الجراد، وتؤثر سلباً على هذه النباتات، فمن المحتمل أن يموت الفلاحين بالجملة والمفرّق!
كذلك لم يتمكن القمح من توفير الأمن بمواجهة العنف البشريّ. كان أوائل المزارعون، على الأقلّ، عنيفين مثل أسلافهم الصيادين – ملتقطي الثمار، إن لم يكونوا أكثر عنفاً. فلقد احتاج المزارعون لامتلاك الأراضي بصورة أكبر واحتاجوا أراضي إضافية للزراعة. بدأت مساحات المراعي تقلّ، جرّاء تمدُّد الأراضي المزروعة من قبل الجيران، وبهذا بدا الفارق بين الكفاف والمجاعة، وهذا أدى لظهور حيف واعتداء على الآخر. عندما كان المنافس للمزارع مجموعة من الصيادين – ملتقطي الثمار، لم يكن أمامه سوى الرحيل. كان صعب وخطر، لكنه كان ممكناً. عندما كان يهدد عدوّ قويّ قرية مزارعين، كان هذا يعني ترك المزارع، البيوت والحظائر. في كثير من الحالات، حُكِمَ على اللاجئين بالموت جوعاً. بالتالي، توجب على المزارعين البقاء في أراضيهم والصراع حتى النهاية.


تُشير دراسات أنتروبولوجية وآركيولوجية كثيرة لأنّه في المجتمعات الزراعية البسيطة، دون مؤشرات سياسية أبعد من القرية والقبيلة، قد كان العنف البشريّ مسؤولاً عن نسبة 15% من حالات الموت، بالاضافة لنسبة 25% من حالات موت البشر. في غينيا الجديدة المعاصرة، تُشكّل نسبة 30% من الموتى تفسير للعنف في مجتمع قبليّ زراعيّ هو dani، ونسبة 35% في مجتمع آخر هو enga. في الإكوادور ربما تصل النسبة إلى 50% عند مجتمع waorani حيث يعاني البالغين من التعرض للموت على يد بشر آخرين!! بمرور الزمن، جرى التحكُّم بالعنف بواسطة تطور البُنى الاجتماعية الكبيرة: كالمدن، الممالك والدول.

لكن للآن يتبقى الكثير لبناء بُنى سياسية ضخمة وفعّالة، حيث ربما نحتاج لآلاف من الأعوام الأخرى!

ساهمت الحياة القروية بتقديم بعض الفوائد لأوائل المزارعين بصورة مباشرة، حيث حقق لهم حماية أفضل بمواجهة الحيوانات البرية، الأمطار والبرد. لكن بالنسبة للسكان العاديين، ربما تفوقت الأضرار على الفوائد في الغالب الأعمّ.




ما الذي قدّمه إذاً القمح للمزارعين؟

لم يقدم شيء، سواء للناس بالعموم كما للأفراد، لكن قدّم القمح شيء ما للإنسان العاقل كنوع حيّ. وفّرت زراعة القمح كمّ طعام أكبر ربطاً بالمساحة المزروعة من الأرض، وهذا ما سمح للإنسان العاقل بالتكاثر بصورة واضحة.

بحدود العام 13000 قبل الميلاد، عندما تغذت الناس على التقاط النباتات البرية واصطادت الحيوانات البرية في منطقة أريحا بفلسطين، كان عدد المتواجدين فيها حوالي 100 شخص أصحاء وذوي تغذية سليمة. بحدود العام 8500 قبل الميلاد، عندما أزيحت النباتات البرية لصالح القمح، توفرت التغذية في أريحا لحوالي 1000 شخص، لكنهم عانوا من الأمراض ومن سوء التغذية بصورة أكبر من أسلافهم.

لا تُطبَعْ عملة التطوُّر في الجوع ولا في الآلام، بل في نُسخ من خيطان الحمض النووي الريبي منقوص الاوكسجين DNA.

بذات الطريقة التي يُقاس بها مقدار نجاح اقتصادي لشركة ما، فقط من خلال المبلغ المتوفر في حسابها البنكيّ وليس بسبب سعادة موظفيها!

يُقاس النجاح التطوريّ لنوع حيّ من خلال عدد نسخ الحمض النووي الريبي منقوص الاوكسجين. فيما لو لا يتبقى نسخ أكثر من هذا الحمض النووي، سينقرض هذا النوع الحيّ، بذات الطريقة التي تنتهي بها الشركة حين تفقد أموالها.


فيما لو يوجد شيء يمكن لنوع حيّ التباهي به فهو امتلاكه لكثير من نسخ الحمض النووي DNA والذي يُعتبر نجاح بحد ذاته، حيث يزدهر هذا النوع الحيّ. انطلاقاً من وجهة النظر هذه، يكون حضور 1000 نسخة منه أفضل من حضور 100 نسخة. هذا يُشكّل جوهر الثورة الزراعية: القدرة على الحفاظ على عدد أشخاص أحياء أكبر في ظروف سيئة.

لكن، لماذا كان يجب على أولئك الأفراد الاهتمام بهذا الحساب التطوريّ؟ لماذا توجب على كل شخص مُعافى تخفيض مستوى حياته الخاص لمضاعفة عدد نسخ جينوم الإنسان العاقل؟ لم ينتبه أحد لأنّ: الثورة الزراعية قد كانت بمثابة فخّ.


شكّل ازدهار الزراعة حدثاً بالغ التدرُّج وقد استغرق قرونا وآلاف من السنين. لم يحدث هذا الأمر فجأة، بحيث ينتقل الصياد ملتقط الثمار إلى الاستقرار بقرية بين ليلة وضحاها، حارثاً الحقول وزارعاً القمح وناقلا المياه من الأنهار. بل استغرق هذا التحوُّل زمناً طويلاً، وقد حدث على مراحل، تطلبت كل مرحلة منها حدوث تغيير طفيف بالحياة اليومية.



وصل الإنسان العاقل Homo sapiens إلى شرق المتوسط منذ حوالي 70000 عام. وخلال الخمسين ألف عام التالية، عاش أسلافنا بهناء ورخاء دون زراعة. كانت الموارد الطبيعية في المنطقة كافية لدعم سكانها. في حقب الوفرة، امتلكت الناس أولاد أكثر، وفي حقب القلّة يقلّ عدد الأطفال. البشر، وككثير من الحيوانات، يمتلكون آليات هرمونية ووراثية تساعدهم في التحكُّم بعملية الإنجاب. في الأزمنة الحسنة، تبلغ النساء سنّ البلوغ بسرعة، حيث تكون قابليتهن للحمل أكبر. لكن في الأزمنة السيئة، يتأخر سن البلوغ وتنخفض الخصوبة.


أضيفت إلى تلك التحكمات الطبيعية بالسكّان آليات تحكُّم ثقافيّة أيضاً. فقد شكّل الصغار والأطفال عبء في التنقُّل والرعاية لعائلات صيّادة ملتقطة للثمار متنقلة. حاولت الناس جعل الفاصل الزمني بين طفل وآخر بمعدل تراوح بين 3 إلى 4 سنوات. وقد أرضعت الامهات الأطفال حتى عمر متقدم { ومن المعروف بأنّ الإرضاع المستمرّ للطفل يعني تخفيض إحتمالية حدوث الحمل }. كذلك اعتمدوا على الامتناع الكليّ أو الجزئي عن ممارسة الجنس { دعمتها ربما تابوهات ثقافية }، الإجهاض أو الوأد ببعض الأحيان.


خلال تلك الآلاف الطويلة من الأعوام، تناول البشر في بعض الأحيان بذور قمح برّي، لكن هذا كان أمر هامشيّ في نظامه الغذائيّ. منذ حوالي 18000 عام، أعطت آخر حقبة جليدية المجال لظهور حقبة احترار عالميّ. بحيث ازدادات درجات الحرارة، كما ازدادت الهطولات المطرية. كان هذا المناخ الجديد مثاليا للقمح وبقول أخرى في منطقة الهلال الخصيب، والتي تضاعفت وانتشرت. بدأت الناس بتناول القمح بصورة أكبر، وهكذا ودون أيّ انتباه توسع استهلاكه. لم يكن ممكناً تناول تلك الحبوب البرية دون تعريضها لعمليات طحن وسلق وسواها، وقد جمعوا كميات منه وحملوها معهم لأماكن إقامتهم المؤقتة. أدّى تساقط تلك الحبيبات الصغيرة في الطرق، لنموّ متزايد للقمح بمناطق إقامة الناس وحولها.


عندما أحرق البشر الغابات، ساعدوا بهذا على حضور القمح. فقد ساهم غياب الأشجار بوصول أشعة الشمس ومياه الأمطار والأغذية للقمح والأعشاب الأخرى، الأمر الذي ساهم بازدهارها واتساع مساحات حضورها، وهكذا حضرت بكثرة الحيوانات أيضاً ومصادر تغذية أخرى للبشر، وتدريجيا بدأ البشر بهجران نمط حياة التنقُّل والميل نحو الاستقرار بمخيمات موسمية ودائمة حتى.


في البداية أمكنهم التخييم لمدة أربع أسابيع، أي خلال فترة الحصاد. بمرور الجيل الأّوّل من مزارعي القمح، عندما تضاعفت مساحة القمح المزروع وامتدت، صارت مدّة التخييم لأجل الحصاد خمسة أسابيع، ثم ستة أسابيع، وبالنهاية استقروا وشكّلوا قرى. على امتداد كامل منطقة الهلال الخصيب، اكتشفوا مؤشرات أثرية لتلك البلدات، سيما في منطقة بلاد الشام، حيث ازدهرت الثقافة النطوفية { بين العام 12500 والعام 9500 قبل الميلاد } وكانوا صيادين – ملتقطي ثمار قد حافظوا على عشرات الأنواع البرية، لكنهم عاشوا في بلدات مستقرة وخصصوا القسم الأكبر من وقتهم لجمع ومعالجة البقول البرية. بنوا بيوت ومخازن غلال من الحجارة. خزَّنوا الحبوب لأجل الأزمنة الصعبة. ابتكروا أدوات جديدة، مثل المناجل الحجرية لجمع القمح البري، وهاون ويد هاون حجري لطحن القمح.


في وقت لاحق للعام 9500 قبل الميلاد، تابع أسلاف الثقافة النطوفية التقاط ومعالجة البقول، لكن كذلك بدؤوا بزراعتها كل مرّة بطريقة أكثر انتقائية. عندما جمعوا حبوب برية، انشغلوا بترك قسم من الحصاد جانباً لكي يزرعوا الحقول في فصل قادم. اكشتفوا أنه بإمكانهم تحصيل نتائج أهمّ فيما لو زرعوا الحبوب بعمق معين بالتربة دون رميها عشوائياً على سطح التربة. هكذا بدؤوا بالحفر والحراثة. بدؤوا تدريجياً كذلك بألغاء الأعشاب الضارة من الحقول، لمنع حضور الطفيليات، ولأجل سقاية وتخصيب التربة المزروعة بصورة أفضل. بهذا وجهوا مزيد من الجهود نحو زراعة البقوليات، وبهذا قلّ الوقت المخصص للصيد والتقاط الثمار البرية. لقد تحوّل الصيادون – ملتقطو الثمار إلى مُزارعين!!



لم يكن هناك خطوة واحدة فقط تفصل المرأة التي التقطت القمح البري عن المرأة التي زرعت القمح المُدجّن، بصورة يصعب فيها تحديد لحظة التحوُّل القاطع إلى الزراعة. لكن، منذ ما يقرب من 8500 عام قبل الميلاد، انتشرت في الهلال الخصيب القرى والبلدات الشهيرة مثل أريحا، والتي أمضى سكانها القسم الأكبر من زقتهم بزراعة أنواع نباتية مدجنة قليلة. مع اعتماد الاستقرار في بلدات وقرى وازدياد ملحوظ في الموارد الغذائية، بدأت تزداد أعداد السكّان. سمح هجران نمط حياة التنقُّل للنساء بامتلاك أبناء بمعدل سنويّ. كذلك جرى فطام الصغار بعمر أبكر: حيث أمنكهم تناول الأطعمة الهشّة. فالحقول الجديدة تحتاج مزيد من الأيدي العاملة. لكن ازدياد عدد السكّان ساهم باختفاء الفائض بالأغذية، وبهذا توجب عليهم زرع المزيد من الحقول. وهكذا عندما بدأت الناس بالعيش في قرى مسكونة بالأمراض، عندما تغذّى الصغار بقول أكثر من تناولهم حليب الأم، وعندما تنافس الإخوة على تحصيل الطعام، ارتفعت وانتشرت نسبة وفيات الأطفال. في غالبية المجتمعات الزراعية، مات واحد من كل ثلاث أطفال على الأقلّ قبل أن يبلغ العشرين عام. مع هذا، فاق ارتفاع معدل الولادات معدل الوفيات، فقد امتلك البشر أعداد أكبر من الأبناء كل مرّة أكثر.



بمرور الزمن، تحوّل " الاشتغال بالقمح " لعبء متزايد. مات الأطفال بأعداد كبيرة، فيما أكل الكبار الخبز بعرق جبينهم. عاش الشخص العادي في مدينة أريحا الفلسطينية بحدود العام 8500 قبل الميلاد حياة أقسى من حياة ذات الشخص الذي عاش في الفترة المتدة بين العام 9500 والعام 13000 قبل الميلاد. مع ذلك، لم يأخذ أحد بحسابه لما كان يحدث. فقد تابع كل جيل حياة الجيل السابق، بظلّ تحسُّن محدود هنا وهناك في الأشياء التي كانوا يحققونها. تمثلت المفارقة بأنّ سلسلة من " التحسينات "، التي توخى كل تحسين منها جعل الحياة أكثر سهولة، قد ساهمت كلها بإنشاء حبل يلتف حول أعناق أولئك المزارعين!!


لماذا ارتكب البشر هذا الخطأ القاتل؟


لذات السبب، الذي عملوا به حسابات خاطئة، على امتداد التاريخ الطويل. لم تكن الناس قادرة على إنشاء التوازن بكامل تبعات قراراتها. ففي كل مرّة قد قرروا بذل القليل من العمل الإضافي { حفر التربة بدل نثر البذور على سطحها، كمثال }، فقد فكّروا " بأنّ بذل جهود أكبر وأقسى، سيساهم بحصاد أوفر! ولن نُشغل بالنا بسنوات القلّة. لن يذهب أطفالنا جوعى إلى النوم ". وقد امتلك هذا معنى هائل لهم. ففيما لو عملت بقساوة أكثر، فستمتلك حياة أفضل، هذه كانت المعادلة.

اشتغل الجزء الأول من الخطة بصورة كاملة. عملياً، عملت الناس بصورة قاسية أكثر، لكن لم تحسب بأنّ عدد الأطفال سيزيد، الأمر الذي كان يعني تقاسم المحصول مع عدد أكبر من الأطفال. كذلك لم يعرف أوائل المزارعون بأنّ إطعام صغارهم أغذية بقولية مقابل تقليل مدة تناولهم لحليب الأم، سيساهم بإضعاف جهاز مناعتهم، وبأنّ البلدات المستقرة ستتحول لحواضن للامراض المعدية. لم يتوقعوا بأنّه عند زيادة اعتمادهم على مورد تغذية وحيد، كانوا يتعرضون كل مرّة أكثر للإفتراس والجفاف. كذلك لم يتوقع المزارعون ان سنوات الإزدهار ستجلب اللصوص والأعداء، وهو ما أجبرهم على البدء ببناء الأسوار والقيام بعمليات الحراسة.


بالتالي، لماذا لم يهجر البشر الزراعة، بعدما أخفق المخطط؟


من جانب، لأنّ التغيُّرات قد حدثت خلال أجيال وبصورة تدريجية فتراكمت وتغيّر المجتمع، ولهذا لم يتذكر أحد بأنه قد عاش سابقاً بصورة مختلفة.

ومن جانب آخر، لأنّ النموّ الديموغرافي قد حرق سفن البشرية! فإذا ازداد تبني الزراعة بين سكّان قرية من 100 شخص إلى 110، لماذا قَبِلَ عشرة أشخاص، وبصورة طوعية، الموت من الجوع لكي يتمكن الباقين من العودة للأزمنة القديمة الخوالي؟
هكذا يُغلَقْ الفخّ فجأةً!



تعليق فينيق

يجب التنويه بداية أنه لا يوجد خطأ بعنوان الموضوع، حيث تعودنا على قراءة تعبير " تدجين الإنسان لنباتات وحيوانات " ولكن في المقال أعلاه تنعكس الآية! حيث يبيّن المقال كيفية تحكُّم القمح بالبشر وتوجيه حيواتهم بصورة واقعيّة، ويأتي هذا المقال في سياق موضوع آخر طرحته سابقاً هنا، هو: الثورة الزراعيّة { النيوليتيّة }: هل شكّلتْ الخطأ الأسوأ بتاريخ البشريّة؟

ودوماً وفق معيار الفائدة / المصلحة لحياتنا، نفهم عُمق طروحات الموضوع وحداثتها.

وشكراً



:: توقيعي ::: الحلّ الوحيد الممكن في سورية: القضاء على مافيا الأسد الداعشيّة الحالشيّة الإيرانية الروسيّة الإرهابيّة فئط!
http://www.ateismoespanarab.blogspot.com.es
يلعن روحك يا حافظ!
https://www.youtube.com/watch?v=Q5EhIY1ST8M
تحيّة لصبايا وشباب القُدْسْ المُحتلّه
https://www.youtube.com/watch?v=U5CLftIc2CY
البديهيّات لا تُناقشْ!
  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
البشريّ؟, الكائن, القمح, دجَّنَ, كيف


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
أين أجد حبة تسوس القمح ؟ ضاع عمري ساحـة الاعضاء الـعامة ☄ 2 07-11-2019 02:43 PM
هل الكائن البشري له ارادة حرة ؟؟؟؟؟ ابن اوى علم الأساطير و الأديان ♨ 1 02-20-2018 12:59 PM
إعلان من الكائن مرفق ببداية الكائن ساحة الشعر و الأدب المكتوب 3 09-15-2017 03:09 PM
ماهذا الكائن؟ إبسلون ساحـة الاعضاء الـعامة ☄ 1 05-05-2017 06:42 AM
مَنْ دجَّنَ القطط لأوّل مرّة؟ فينيق ساحة الترجمة ✍ 3 01-19-2015 11:36 AM