شبكة الإلحاد العربيُ  

العودة   شبكة الإلحاد العربيُ > ملتقيات في الإلحاد > حول الحِوارات الفلسفية ✎

إضافة رد
 
أدوات الموضوع اسلوب عرض الموضوع
قديم 06-24-2016, 08:22 PM   رقم الموضوع : [1]
ساحر القرن الأخير
زائر
 
Post فلسفة الانتحار....أو الفلسفة السوداء


استهلال :
هذا الموضوع هو بداية لسلسة من الأجزاء ستصدر متعاقبة بخصوص فلسفة الانتحار عند الفيلسوف ألبير كامو كما جاءت في كتابه "أسطورة سيزيف"
سنتناول في كل مرة مقتطفا من الكتاب يبدو ذا أهمية في اغناء فهمنا حول هذه الظاهرة التي اختص بها الانسان دون باقي الكائنات الحية .
وأتمنى أن نكون في الأخير قد مررنا على جل مناطق الكتاب .

تقديم :
لا يكاد دين يمر دون أن يلعن المنتحر , لأن هذا المتهور يستخف بأكبر نعمة منحها الله للبشر : الحياة . لقد أخذها في استخفاف ورماها عرض الحائط , بكل بساطة و في رمشة عين !
الأمر الذي لا ينتبه له معظم الناس هو أن الانتحار الفعلي عبر الارتماء من سطح مبنى عال أو شرب سم قاتل أو " مصافحة القطار" , هو انتحار للمرة الثانية . المنتحر شخص انتحر قبل مدة من انتحاره , انتحر بالقوة بانتظار حصول الانتحار بالفعل الذي سيكون التمظهر الواقعي المادي لذلك الانتحار الأول . ولهذا فانه يمكن القول بأن الحياة ملئية بالمنتحرين الذين لم ينتحروا بعد.
لكل منتحر سببه , فهذا فقد عشيقته , وذاك أدرك أنه يضيع الوقت هنا , والآخر تيقن أن مكانه ليس هنا و انما هناك (حيث لا ندري نحن) , ومنهم من يجتاحه فضول ورغبة جامحة لتجريب الموت ايمانا منه بأن في الموت لذة , فهل يوجد شيء يجمع كل هؤلاء ؟ وان وجدت بينهم أرضية مشتركة , فما مشروعيتها ؟
ثم ما المقصود بمشروعية الانتحار هذه ؟ ذلك أن المشروعية مقترنة بوجود قانون , و القانون مقرون بوجود مشرع يعاقب . فان كان الانتحار غير مشروع , فمن سيعاقب المنتحر ؟ ولنفرض أن هذا الذي سيضطلع بمهة العقاب موجود , ألا يرى أنه يعاقب القاتل والضحية معا ؟
وان كان الانتحار مشروعا , فمن هذا الذي شرعه ؟ هل هو العقل ؟ العاطفة ؟ أم هي الارادة الحرة ؟
كلنا أمل في أن نجد ما يسلط الضوء على هذه الأسئلة في كتاب ألبير كامو , الفيلسوف الفرنسي الذي عرف بفيلسوف التناقض (philosophe de l'absurde ).

المقتطف :
يقول كامو في كتابه أسطورة سيزيف الترجمة العربية لأنيس زكي حسين من ص 7 الى ص 15 (نقط الحذف (...) تحيل على حذف من طرفي وليس من طرف الكاتب ):

"ان الموضوع الرئيسي في "أسطورة سيزيف هو هذا : من المشروع والضروري التساؤل عما اذا كان للحياة معنى .... والجواب الذي يكمن في , ويلوح عبر المتناقضات التي تغطيه , هو هذا : حتى اذا لم يؤمن المرء بالله فان الانتحار غير مشروع ....حتى ضمن حدود العدمية ,من السهل ايجاد الوسيلة للمضي الى ما وراء العدمية ....هذا الكتاب يلخص نفسه لي ياعتباره دعوة سهلة الي العيش والخلق , حتى وسط الصحراء .
هنالك مشكلة فلسفية هامة وحيدة هي الانتحار. فالحكم بأن الحياة تستحق أن تعاش , يسمو الى منزلة الجواب على السؤال الأساسي في الفلسفة . وكل المسائل الباقية - هل أن للعالم ثلاثة أبعاد أم لا,هل أن للذهن تسعة أصناف أم اثني عشر صنفا -تأتي بعد ذلك . فهذه هي لعب , وعلى المرء أن يجيب أولا. واذا كان صحيحا , كما يدعي نيتشه,أن الفيلسوف,لكي يستحق احترامنا ,يجب عليه أن يعلم بواسطة الأمثال, فأنت تستطيع أن تقدر أهمية ذلك الجواب , لأنه يسبق التعريف...انني لأسأل نفسي , كيف أستطيع أن أحكم بأن هذه المسألة هي أهم من تلك ,وأجيب بأن المرء يحكم بواسطة الفعاليات التي تستتبعها المسألة . ولم أر أحدا مات من أجل التفكير في الكينونة. فغاليليو الذي عرف حقيقة علمية ذات أهمية عظيمة, تخلى عنها بكل سهولة في اللحظة التي هددت فيها حياته . وبمعنى من المعاني نجد أنه حسنا فعل,فلم تكن تلك الحقيقة لتستحق المشنقة , فكون الأرض تدور حول الشمس أو الشمس تدور حول الأرض هو من الأمور التي تتصف بأعمق اللااكتراث . وانها مسألة لا جدوى فيها أن يقول المرء الحقيقة . ومن الناحية الأخرى , أجد الكثيرين يموتون لأنهم يقررون أن الحياة لا تستحق أن تعاش. وأجد آخرين يذهبون ضحية القتل, بصورة متناقضة , لأنهم يفعلون ذلك بسبب الأفكار أو الأوهام التي تهبهم سببا يعيشون من أجله .(فما هو سبب ممتاز للعيش هو أيضا سبب ممتاز للموت). ولهذا فانني أستنتج أن معنى الحياة هو أشد المسائل الحاحا فكيف نجيب عن تلك المسألة ؟ هنالك طريقتان في التفكير بكل المسائل الجوهرية (وأعني بذلك تلك المسائل التي يكمن فيها خطر الموت أو المسائل التي تركز الرغبة في الحياة) : طريقة لاباليس وطريقة دونكيشوت. فالتوازن بين الدليل والغنائية هو وحده الذي يتيح لنا أن نحقق,في وقت واحد, العاطفة والوضوح ...
لم يتم بحث الانتحار الا باعتباره ظاهرة اجتماعية. ولكننا هنا , بعكس ذلك , معنيون بالعلاقة بين التفكير الفردي وبين الانتحار. فمثل هذا العمل يجري اعداده ضمن صمت القلب , كالعمل الفني العظيم.بل ان الانسان نفسه يجهله . وفي احدى الأمسيات يضغط على الزناد أو يقفز . وقد علمت عن مشرف على بناء العمارات كان قد انتحر , لأنه فقد ابنته قبل خمس سنوات,وأنه كان قد تغير كثيرا منذ ذلك الحين , وأن تلك التجربة كانت قد "هدمته" . ولا يمكننا أن نتصور كلمة أدق من هذه , فالبدء بالتفكير هو البدء بالتهدم وليس للمجتمع الا صلات قليلة بتلك البدايات. الدودة هي في قلب الانسان , وعلينا أن نفتش عنها هناك . وعلى المرء أن يتتبع تلك اللعبة القاتلة التي تقود من الوضوح في وجه الوجود الى الفرار من الضياء.
هنالك أسباب كثيرة للانتحار, وبصورة عامة نجد أن أوضح هذه الأسباب ليس أقواها. فنادرا ما يرتكب الانتحار بعد تأمل(ومع ذلك لا يمكننا أن نستبعد هذه الفرضية )...ولكن على المرء أن يعرف ما اذا لم يكن صديق ذلك الشخص اليائس قد خاطبه في ذلك النهار نفسه بلا اكتراث هو المذنب . لأن ذلك يكفي للتعجيل بكل الأحقاد, والسأم , التي ما تزال معلقة .
بيد أنه اذا صعب تعيين اللحظة المضبوطة , الخطوة الدقيقة حين يكون الذهن قد اختار الموت,فمن السهل استنتاج النتائج التي يشتمل عليها الفعل , من الفعل نفسه . فبمعنى من المعاني,وكما هو الامر في روايات الرعب , يرقى قتلك لنفسك الى منزلة الاعتراف. انه الاعتراف بأن الحياة كثيرة عليك , أو بأنك لا تفهمها . دعنا لا نذهب بعيدا في سرد هذه الاستنتاجات , ولنعد الى كلمات الحياة اليومية . ان ذلك هو مجرد اعتراف -بأن ذلك لا يستحق العناء-.فالعيش بالطبع ليس سهلا. فأنت تستمر على أداء الحركة التي يأمر بها الوجود لأسباب عديدة , أولها العادة . والموت طوعا يتضمن أنك أدركت , حتى غريزيا , صفة تلك العادة المضحكة , وعدم وجود أي سبب عميق للعيش , الصفة اللاعاقلة لذلك الدأب اليومي , ولا جدوى العذاب ....الانسان يحس بالغربة في كون يتجرد فجأة من الأوهام والضوضاء , ونفيه هذا هو بلا علاج ما دام قد حرم من ذكريات وطن مضيع أو من أمل أرض موعودة . وهذا الطلاق بين الانسان وحياته,الممثل ومشهده, هو بالضبط الشعور باللاجدوى....هنالك صلة مباشرة بين هذا الشعور باللاجدوى وبين الحنين الى الموت .
وموضوع هذا الكتاب هو بالضبط هذه العلاقة بين اللاجدوى والانتحار والدرجة الدقيقة التي يكون بها الانتحار حلا للاجدوى."


التحليل :
يثير سيزيف انتباهنا في بداية النص الى حساسية الموضوع المتناول : انها ليست مسألة تحقيق ربح اقتصادي أو تقدم علمي , وليست حتى مسألة تأملية ميتافيزيقية ترفيهية , انها مسألة مصيرية , مسألة حياة أو موت , أن نكون او لا نكون : هذا هو جوهر النقاش حول الانتحار . ان دفع الأنا الى التفكير في الانتحار هو بمثابة دفع قاض نزيه و كفء, تعود أن ينطق الأحكام على أريكته الجلدية المريحة بكل ثقة وبكل ارتياح, الى النطق بالحكم في ملف قضائي المتهم فيه الرئيسي هو ابنه الغالي .
ليس هذا شأن باقي القضايا الفلسفية والعلمية ,كمسألة "أصل الانسان قرد " أو مسألة " الأرض مركز الكون " أو حتى مسألة "وجود الله " , فبالرغم من الجدل و حجم الخطر والتوتر الذي أثارته بين الناس, لم ترق خطورة هذه المسائل الى درجة "الخطر الوجودي ", بكل بساطة لأن نتيجتها لا تمس من قريب أو بعيد استمرارية الانسان في العيش . ان رائحة الموت لا تفوح من هذه الموضوعات, خلافا لموضوع الانتحار الذي تحوم حوله الغربان و الضباع .
ينبهنا كامو أيضا الى طبيعة الموضوع نفسه التي تفرض علينا منهج تناوله : فالانتحار موضوع مأساوي , تراجيديا يعيشها الفرد في علاقته مع الجماعة (الأسرة , المجتمع , أو البشرية) , وطبعا لكل مأساة بطل ومهمة مستحيلة و اله يخرج من الآلة لحل العقدة(deus ex machina) , وبطل هذه المأساة هو المنتحر طبعا , ومهمته المستحيلة هي العيش, أما الاله الخارج من الآلة فهو الموت الذي ينهي معاناة البطل في نهاية المسرحية . انه موضوع مشحون بالعاطفة , ولذلك فان منهجية العقل الجافة ليست كافية لادراكه , ولا بد من الغنائية (كما قال كامو) أو الشاعرية أو منهجية القلب , الى جانب منهجية العقل , و للذاتية الى جانب الموضوعية, في تناول هكذا مواضيع .

حقا ان الانتحار وجبة تطبخ على نار هادئة , "شيء يعد في صمت القلب" كما قال كامو . ان الذي يعد للانتحار شخص يرى في نفسه صاحب مشروع . فلا ينبغي أن يخدعنا الذين ما ينفكون يكررون أن "الانتحار تهور أو تسرع " , أو " أن الانتحار خطوة غير مدروسة أو غير محسوبة " . المنتحر شخص درس عمليته جيدا , وأعد لها كل الظروف اللوجيستيكية في عناية , ففي الأخير المسألة تتعلق بحياته الغالية , ولا يحسبن أحد ان المنتحر لا يقدر ثمن حياته , بل انه يقدره جيدا . والفعل الانتحاري , ان كان يتم في رمشة عين , فانه ينطوي على ليال من الاعداد . لكن الاشكال كما طرحه كامو هو في تحديد تلك اللحظة الفارقة , تلك اللحظة التي حصل فيها التوجه النهائي الذي لا رجعة فيه , تلك اللحظة التي تمت فيها البرمجة الذاتية على الانتحار , تلك اللحظة التي صار فيها الانتحار نهاية حتمية , قدرا . والضبابية التي تلف تلك اللحظة راجعة أساسا الى كون الانتحار ليس قرارا بقدر ما هو ارادة , ارادة الانتحار أو الموت التي تتبلور وتتطور ببطئ , فتفتر تارة وتشتد أخرى . لكن الاشكال يبقى مطروحا , لأن المنتحر يقوم فجأة , ويتناول قارورة السم و يبلع محتواها , وهذا سلوك محصور في بضع ثوان. فمتى وضعت الأقلام وجفت الصحف ؟ هل قبيل قيامه من كرسيه ؟ أم بالضبط عندما قام ؟ أم عندما تناول قارورة السم ؟ أم عندما فتحها ؟ أم عندما تأملها لمرة أخيرة قبل أن يبلعها ؟ أم عندما لامس فم القارورة فمه ؟ أم عندما صار السم في فمه قبل بلعه ؟ أم عندما بلع السم ولم يسارع الى المستشفى ؟ أم أن الأقلام جفت يوما قبل جلوسه على ذلك الكرسي ؟ عند أية لحظة بالضبط لم يعد من الممكن بالنسبة له أن يتراجع ؟ أظن أن المنتحر نفسه لن يستطيع ان يجيب عن هذا السؤال : متى قررت بالضبط الانتحار ؟ (القرار هنا بالمعنى الحق للكلمة أي القرار الذي لا رجعة فيه أبدا) . وأظن أن الحل الجزئي لهذه المعضلة يكمن في كون الانتحار , كما قلت آنفا , ارادة يراودها الشك باستمرار ولا يمكن الحديث عن قرار وانما عن توجه نفسي يشتد ويخف .
عندما يبلغ هذا التوجه النفسي مستويات قصوية , عندما تتفوق القوى النفسية الدافعة نحو الانتحار على القوى المفرملة , فان أقصى ما يمكن قوله هو أن الاستعداد العام للاقدام على الانتحار يكون قويا وبأن احتمالية الانتحار تكون كبيرة جدا , لكن لا نستطيع ان نجزم بأن ذلك الوضع سيؤدي الى الانتحار ضرورة , فليست المسالة ميكانيكية محضة وانما هي نفسية . وكأن في الأمر متغيرا خفيا يدخل في تقرير المسألة النهائي , عامل أو عوامل تكون لها الكلمة الأخيرة بغض النظر عن تفوق هذه القوى أو تلك . فما عساه يكون هذا العامل الخفي ؟
في نهاية المقتطف , يخبرنا كامو بأنه , وان تعددت أسباب الانتحار , فان لها أرضية واحدة تتمثل في الاعتراف , وهذه كلمة قوية ينبغي أن نقف عندها . انها تعني أن الانسان كان لمدة طويلة ينهج نوعا من التحايل على نفسه ويتماطل في مواجهة الحقيقة , ثم تأتي الساعة التي يمل فيها بشكل نهائي من ذلك التماطل ويقرر مصارحة نفسه , الاعتراف . بماذا ؟ بوجود نوع من اللاتناسب أو اللاتوافق بينه وبين الحياة , والحل الطبيعي لشيئين غير متناسبين هو الافتراق , والمنتحر شخص يعرف جيدا أن مفارقة الحياة يكون بالموت , وبقاء شيئين لامتوافقين ولايناسب الواحد منهما الآخر هو أمر لا جدوى منه . بهذا يكون العيش لا مجدي في عين المنتحر , لأنه يعني بالضبط الارتباط بشيء لا يناسبه البتة . وفكرة اللاجدوى هذه , أو طلاق الانسان مع الحياة ,حياته , هي محور كتاب كامو , والكتاب ما هو الا رصد للعلاقة الحميمية بين الفكرتين : فكرة الانتحار و فكرة اللاجدوى . فكرتان لصيقتان في ذهن المنتحر يحاول كامو أن يفك الالتصاق بينهما عبر تبيان أن اللاجدوى لا تشرعن الانتحار .

ختم :
ان الذي يتأمل المعجم الذي استخدمناه , والذي استخدمه كامو قبلنا , سيجد فيه غير قليل من الكلمات المنتمية الى حقل الرومانسية , وهذا ليس بغريب اذا ما تأملنا طبيعة الموضوع العاطفية كما نبه الكاتب نفسه الى ذلك . ثم ان هذه النقطة بالذات تزيد من فهمنا لظاهرة الانتحار بوصفه حلا للعشق الممنوع بين المرء وحياته .
ولنا في الحديث بقية مع مقتطفات مقبلة من الكتاب الغني .



التعديل الأخير تم بواسطة مُنْشقّ ; 11-20-2016 الساعة 03:15 PM.
  رد مع اقتباس
قديم 06-24-2016, 08:27 PM شمس غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [2]
شمس
عضو بلاتيني
 

شمس is on a distinguished road
افتراضي

مقالاتك حلوة وممتعة!!
رح برجع بقرأها مرة تانية!

..



:: توقيعي ::: "Sacrifice & Satisfaction"
"When we feel satisfied, we are able to sacrifice. And when we sacrifice. .we reach the paradise that we dreamt of..without even feeling that we've made a sacrifice. ."
"N"
  رد مع اقتباس
قديم 06-27-2016, 02:50 PM   رقم الموضوع : [3]
ساحر القرن الأخير
زائر
 
افتراضي

شكرا على التثبيت
هل يمكنكم حذف "(الجزء 1)" من عنوان الموضوع ليصير جامعا لكل الأجزاء التي ستأتي فيما بعد ؟



  رد مع اقتباس
قديم 10-29-2016, 02:31 AM   رقم الموضوع : [4]
ساحر القرن الأخير
زائر
 
افتراضي

الجزء الثاني :


أجد أن إحساس الضجر يقف وراء حالات انتحار عديدة , ولعله المرشح للرتبة الأولى كتفسير للظاهرة. انه إحساس بالضيق والاختناق ينتابنا عندما نجد أنفسنا نمارس نشاطا ونحن لا نرغب فيه , نشاطا لا يغوينا ولا يثير اعجابنا, لكننا مرغمون على القيام به لسبب أو لآخر , وان صادف وكان ذلك النشاط هو الحياة , فان الضجر يكون ضجرا من العيش , ويا له من إحساس مقيت . يقول كامو في هذا الصدد في كتابه "أسطورة سيزيف" ص : 21-22:

"يحدث أن مشاهد المسرح تتهدم . النهوض , الباص, أربع ساعات في الدائرة أو المصنع , وجبة الطعام , النوم , والاثنين , الثلاثاء, الأربعاء,الخميس , الجمعة , السبت , طبقا للنسق نفسه –من الممكن السير في هذه الطريق بسهولة دائما. ولكن في يوم من الأيام تنشأ-لماذا- ويبدأ كل شيء من ذلك الضجر بالاصطباغ بالدهشة. "يبدأ" هذا هو المهم. فلضجر يبدأ في نهاية أفعال الحياة الميكانيكية, ولكنه في الوقت نفسه يفتتح حافز الادراك ويثير ما يتبع ذلك. وما يتبع ذلك هو العودة التدرجية الى السلطة أو أن يكون ذلك اليقظة , المعرفة . ويأتي بعد اليقظة , في الوقت المناسب, ينتج من ذلك: الانتحار , أو الشفاء. والضجر يحتوي في نفسه على شيء يبعث على الغثيان...وهكذا , وخلال كل يوم من أيام الحياة العادية , يحملنا الزمن. ولكن تأتي لحظة يكون علينا نحن أن نحمل الزمن فيها."


يقودنا الضجر من تلك الحياة الروتينية الى التفكير , الى حمل دفتر وقلم ومحاولة الإجابة عن السؤال التالي : ما جدوى العيش ؟
التساؤل عن الجدوى هو تساؤل عن الغاية والهدف : هل أنا هنا فقط لأكون هنا أم أنني هنا لتحقيق هدف معين ؟
فجاءت الفلسفات و الأديان لتقدم لنا أجوبة متضاربة حول المسألة. يجلس الجميع بجانب الشرفة المطلة على الشارع , ماسكين دفاتر وأقلام في أيديهم , كل يحاول الاتيان بالجواب المقنع , مستفيدا من كل ما قيل أو ناهجا أسلوبه الخاص من نقطة البداية التي وضعها بنفسه .
لكن السؤال عن الجدوى من العيش ليس فقط سؤالا عن الغاية من الحياة , وانما أيضا هو تساؤل عن هدف الهدف وغاية الغاية : ان كنت هنا لأعيش فقط فلماذا علي أن أعيش ؟ وان كنت هنا لغاية أخرى تتعدى العيش فلماذا علي أن أسعى الى تلك الغاية ؟ ولا يظنن أحد أن المسألة تتوقف هنا , فسؤال " و لماذا " (أو ما الجدوى من ...؟) لن يكف عن طرح نفسه بعد أن تجيبوا عما سبق .

هنا تصمت الأديان والفلسفات , وتبدأ الفلسفة السوداء والعدمية.
يستمر ذلك لبعض الوقت , ثم يرمي أحدهم بالقلم من يده ويمزق دفتره عن آخر ورقة قائلا : "كل هذا لغط سخيف لا طائل منه ".. يستمر الآخرون في الكتابة على دفاترهم. ثم يقوم شخص آخر يمزق دفتره ويرمي بالقلم بعيدا , ويليه آخر , وآخر ,...ويستمر الآخرون في الكتابة على دفاترهم . وقد صادف أن أحد الذين رموا أقلامهم ومزقوا دفاترهم قال للباقين , الصامدين , قبل أن ينصرف : "نحن السابقون ...وعاجلا أو آجلا أنتم بنا لاحقون". لا شك أنكم عرفتم أولئك الذين غادروا وأولئك الذين بقوا , أولئك الذين أدركوا أنهم يلعبون لعبة سخيفة وأولئك الذين ما تزال اللعبة تروقهم وتثير اهتمامهم .
انه الضجر مرة ثانية , الضجر من البحث عن سبب حقيقي للعيش , الضجر الذي لن يقود هذه المرة الى حمل دفتر وقلم , وانما الى الارتماء بعنفوان في أحضان الموت . أن ترمي القلم وتصرخ قائلا : "لم يعد كل هذا يغويني " .

من بين أولئك الذين ضلوا صامدين , كثيرون صاروا متعاطفين مع الذين ألقوا أقلامهم , وقرروا انشاء جبهة معارضة من الداخل, يكتبون على دفاترهم ما كان من المقرر أن يكتبه أولئك الذين غادروا بعد أن ألقوا أقلامهم .
هذا الفريق الثالث يدعو الى تبجيل الانتحار والتصفيق للمنتحرين , الى الإشادة بالانتحار بوصفه تحررا من ذلك النشاط الذي صار مقيتا الى قلبك ومكروها. الإشادة بالانتحار من طرف الأحياء الذين يستمرون في الحياة هي بمثابة انتقام من الحياة التي يعيشونها. انهم جلادون , يقيدون الحياة في دهليز مظلم , ثم يشرعون في جلدها , ويشعرون في خضم ذلك بلذة لا مثيل لها , بفرائسهم تهتز أمام ذلك المشهد : يصير الوحش حملا وديعا . الحياة القاسية , الحياة الملغزة , الحياة التي ترفض أن تفصح عن نفسها , تصبح فجأة ضحية تحت أيديهم ينكلون بها كما يحلو لهم , فيعرونها أمام الملأ لتظهر سخافتها ساطعة كالشمس, ويظهر سخف أولئك الذين يتشبثون بها بكل ما أوتوا من قوة .
مدح الانتحار دون الاقدام عليه , هذا عين الاستخفاف بالحياة والسخرية منها . وكمثال لهذه السخرية و التهكم على الحياة ما نقرأه في كتاب كامو ص 16 :

"..... شوبنهاور.... امتدح الانتحار بينما كان يجلس الى مائدة بديعة".


أثار هذا القول فضولي ودفعني الى الاهتمام بهذه الشخصية , المعروفة بفلسفتها التشاؤمية , وما قالته بخصوص الانتحار , فقررت أن أنزاح قليلا عن الفيلسوف كامو , و النظر فيما جاء به شوبنهاور.
هذا ما سنكتشفه في الجزء الثالث من دراستنا .



  رد مع اقتباس
قديم 11-01-2016, 11:29 AM اسيرة عالمي غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [5]
اسيرة عالمي
عضو جديد
 

اسيرة عالمي is on a distinguished road
افتراضي

تحياتي لك موضوع اقل مايقال فيه رائع
تحياتي لك و albert camus غني عن مدحي وثنائي



  رد مع اقتباس
قديم 11-02-2016, 12:48 AM   رقم الموضوع : [6]
ساحر القرن الأخير
زائر
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة اسيرة عالمي مشاهدة المشاركة
تحياتي لك موضوع اقل مايقال فيه رائع
تحياتي لك و albert camus غني عن مدحي وثنائي
شكرا لتقييمك
وسعيد بوجود أشخاص مهتمين بالفلسفة وبالفيلسوف كامو معنا



  رد مع اقتباس
قديم 11-06-2016, 08:41 PM Richard Sioran غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [7]
Richard Sioran
عضو جديد
 

Richard Sioran is on a distinguished road
افتراضي

عندما قرات موضوعك اتى في بالي سطر من كتابات سيوران يقول فيه ( ليس حرفيا )

ان المنتحرين هم اكثر الناس تفاؤلا ، لانهم تركوا الحياة طامحين بشيء افضل
اي بمعنى ياسيدي الفاضل ان المنتحر من وجهة نظر سيوران هو متفائل بانه يوجد شيء افضل من الحياة ، ،
لكن من وجهة نظري البسيطة كشخص agnostic
اعتقد ان الانتحار هو خطوة متسرعة وشجاعة ، لان الشخص مهما بلغ علمه لا يستطيع معرفة ماينتظره بعد الموت ، ممكن ان يكون العدم ومن حسن حظ المنتحر ، ممكن ينتظره اله سادي ليست لديه رغبات يوى تعذيب الناس وحرقهم وووو ، ممكن اله رحيم يحتضنه ( مستبعد بالنسبة لي )

اتمنى اني اوضحت نقطتي



  رد مع اقتباس
قديم 11-06-2016, 08:42 PM Richard Sioran غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [8]
Richard Sioran
عضو جديد
 

Richard Sioran is on a distinguished road
افتراضي

ولكن اضافة الى ماقلتة سابقا يوجد خلل في طرحي لانه النهاية حتمية ان كنت انتحرت ام مت بعد كذا سنة ، حياة لغز



  رد مع اقتباس
قديم 11-07-2016, 01:02 AM   رقم الموضوع : [9]
ساحر القرن الأخير
زائر
 
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة richard sioran مشاهدة المشاركة
عندما قرات موضوعك اتى في بالي سطر من كتابات سيوران يقول فيه ( ليس حرفيا )

ان المنتحرين هم اكثر الناس تفاؤلا ، لانهم تركوا الحياة طامحين بشيء افضل
اي بمعنى ياسيدي الفاضل ان المنتحر من وجهة نظر سيوران هو متفائل بانه يوجد شيء افضل من الحياة ، ،
لكن من وجهة نظري البسيطة كشخص agnostic
اعتقد ان الانتحار هو خطوة متسرعة وشجاعة ، لان الشخص مهما بلغ علمه لا يستطيع معرفة ماينتظره بعد الموت ، ممكن ان يكون العدم ومن حسن حظ المنتحر ، ممكن ينتظره اله سادي ليست لديه رغبات يوى تعذيب الناس وحرقهم وووو ، ممكن اله رحيم يحتضنه ( مستبعد بالنسبة لي )

اتمنى اني اوضحت نقطتي
الحياة لغز ما في ذلك شك
ولعل هذا الطابع الملغز للحياة هو الذي أدى الى اهراق أنهار من المداد على أطنان من الورق دون أن ينفك من لغزها الا القليل (أو يهيأ لنا أننا فككنا القليل ونحن لم نفكك شيئا)
ولعل الطابع الملغز للحياة هو طوق الحماية الذي يدفع بكل مالك لارادة انتحارية قوية الى الشك في ارادته تلك واعادة النظر في قراره
الأمل في حياة أفضل بلا شك يشكل محركا أساسيا لكل منتحر
شكرا على مرورك القيم
وننتظر منك أن تفيدنا بخصوص نظرية سيورين



  رد مع اقتباس
قديم 11-07-2016, 01:46 AM مجرد بشر غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [10]
مجرد بشر
الأُدُباءْ
الصورة الرمزية مجرد بشر
 

مجرد بشر is on a distinguished road
افتراضي

العديد ممن على الأرض ماتوا منذ زمن، المنتحر فقط شخص سئم التظاهر بالحياة

تحياتي، مقال أقل ما يقال عنه رائع، سأحفضه في المفضلة
شكرا



:: توقيعي ::: أن تتعلم شيئا جديدا هو أن تجد دافعا جديدا للحياة
  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
الانتحارأو, الجزء, السوداء, الفلسفة, فلسفة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
اسلوب عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
ما هي الثقوب السوداء؟ مُنْشقّ حول المادّة و الطبيعة ✾ 40 12-19-2021 05:15 PM
الفلسفة السوداء تلميذ12 حول الحِوارات الفلسفية ✎ 25 08-17-2017 12:00 AM
هل حاول محمد الانتحار؟ bakbak العقيدة الاسلامية ☪ 0 03-31-2016 03:00 PM
الكوميديا السوداء Abdo_el-genedi ساحة النقد الساخر ☺ 3 02-29-2016 02:12 PM
الغربة ... الوحدة ... الانتحار سمكة طائرة ساحـة الاعضاء الـعامة ☄ 53 08-30-2014 04:04 AM