شبكة الإلحاد العربيُ  

العودة   شبكة الإلحاد العربيُ > ملتقيات في نقد الإيمان و الأديان > حول الإيمان والفكر الحُر ☮

إضافة رد
 
أدوات الموضوع اسلوب عرض الموضوع
قديم 09-07-2015, 11:36 AM مُنْشقّ غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [1]
مُنْشقّ
عضو عامل
الصورة الرمزية مُنْشقّ
 

مُنْشقّ is on a distinguished road
افتراضي جدلية النص الديني والتأويل

هشام آدم: جدلية النص الديني والتأويل: 1


ظهرت، خلال السنوات الأخيرة، في الوطن العربي وبعض أجزاء أخرى من العالم، أسماء لها مكانتها العلمية، تحاول التوفيق بين النصوص الدينية وبين المنجزات العلمية الحديثة، على افتراض أنه لا يوجد تناقض أو تعارض، على الإطلاق، بين الدين والعلم، وأنهما، ربما، كانا وجهين لعملة واحدة. واعتمدوا في ذلك على أن إشكالية النصوص الدينية تكمن في أخطاء التأويل أو التفسير. وحيث أنهم لا يريدون خدش حياء العامة، أو حتى الخاصة، فإنهم يُرجئون هذه الأخطاء إلى كمّ المعارف التي توفرت في أزمنة هؤلاء المفسرين، محاولين بذلك إيجاد عذر لهم، من حيث أنهم اجتهدوا حسب المُتاح من العلوم والمعارف في وقتهم؛ وإذ تتعارض تفسيراتهم المبنية على معارفهم القاصرة مع تفسيرات المفسرين في العصور المتأخرة، فإنهم يرون أن النص نفسه لا يتغيّر، بل يحدث تجديد في معاني النصوص بتجدد المعارف العلمية المختلفة، دون أن يحاول أحدهم الإجابة على السؤال الكبير: "كيف يمكن لنص واحد أن يحتوي على تفسيرين، دون أن يفترض الخطأ في أحدهما؟"

قد نشهد اختلاف المعاني والتأويلات على النصوص الإبداعية الأدبية؛ بل إن اختلاف التأويلات في النص الأدبي يعتبر واحدة من مميزات الأعمال الأدبية وخصائصها، وكلما زادت التأويلات في العمل الأدبي المُحدد كلما زادت قيمته الإبداعية، وقد قامت على ذلك مدارس نقدية كبيرة، وتم التنظير لمسألة المعنى والدلالة وتحليل الخطاب من قبل العديد من الفلاسفة والنقاد الكبار، وأوسعوا الأمر برمته نقاشاً وتحليلًا، فظهرت البنيوية والوظيفية والوجودية والتفكيكية وغيرها، ولكن هل يمكن أن ينطبق الشيء ذاته على النصوص المقدسة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقبع في إجابة سؤال آخر: "ما هي وظيفة النصوص المقدسة؟" بإمكاننا جميعًا الإفتاء حول هذه المسألة حسب تصوّراتنا الذهنية لماهية الدين ووظيفته، ولكن هل بإمكان أحدنا الجزم بإجابة واحدة قاطعة ومُؤكدة؟

إن كانت النصوص المقدسة ذات وظيفة إرشادية ووعظية، تحرص على تبيان الإيمان القويم [Orthodox] فإنه من الصعب الاعتقاد بوجود علاقة بين هذه النصوص وبين المنجزات العلمية على الإطلاق؛ إذ ليس ثمة علاقة تجمع بين مسائل العبادة والتديّن، والتحريم والإباحة، والخير والشر، والعبودية والكهنوتية وبين العلم ومنجزاته، بل قد لا يلتقيان على الإطلاق. وإن كانت النصوص المقدسة ذات وظيفة تنظيمية ودستورية، تحرص على تبيان السلوك القويم [Catholic] فإنه، أيضًا، من العسير علينا الاعتقاد بوجود علاقة بينهما، فما العلاقة بين: المعاملات السلوكية، والتشريعات، والحدود، والقصاص، والفرائض، والديّات، والوصايا الأخلاقية وبين العلم ومنجزاته؟ أما إذا كانت النصوص المقدسة ذات وظيفة تنويرية (حسب المفهوم الفلسفي التأملي)، بحيث تحاول هذه النصوص إرشاد الناس وتعريفهم بالكون والطبيعة والكائنات وحركتها، وصولًا إلى الله، فإنه لاشك له علاقة وثيقة بالعلم، ولكنه، عندها، سوف يفقد صفة القداسة. ببساطة، لأن هذه المعارف متجددة ومتبدلة على الدوام، بل ولا تقوم إلا على مبدأ الشك الدائم، لا على اليقين، وهو ما يتنافى مع مفهوم القداسة، كما أننا سوف نتساءل عندها: "إذا كانت وظيفة الأديان تأملية، فلماذا الفرائض والعبادات والطقوس والشعائر؟" ألا يُمكن إنجاز هذه الوظيفة التأملية دون هذه الفرائض الشكلية؟

إن واحدة من أكبر المشكلات التي نعاني منها، في سبيل الحصول على إجابات شافية، هو أنه لا يوجد تعريف محدد للدين أو وظيفته؛ لاسيما عندما يتعلق الأمر بالقضايا الجمعية المشتركة، وليس الفردية. هذا على افتراض أن الأديان لم تأت أصلًا إلا من أجل خلق مجتمعات متدينة، وليس أفرادًا متدينين. لأن وجود الفرد المتديّن في حد ذاته لا يخلق مشكلة، ولا يفرض تساؤلًا، بقدر ما يفرضه وجود مجتمع متديّن، وعندها سيكون سؤالنا التالي مشروعًا: "ألا يمكن قيام مجتمع سوي وأخلاقي بلا دين أو تدين؟"

سوف أحاول في هذا المبحث التركيز على تحليل النص المقدس، في محاولة للبحث عن إجابات لتساؤلاتنا السابقة، وسوف آخذ القرآن (كتاب المسلمين المقدس) كنموذج، والحقيقة فإن السبب الذي جعل القرآن مُعجزًا، هو ذاته الذي سوف يجعله ورطة؛ ألا وهو (البلاغة اللغوية). إن البلاغة في جزء منها مُناطة بالإيضاح والبيان، وهو ما يفتقر إليه النص القرآني بشدة، وبالتالي ينفي عنه البلاغة؛ إلا إذا اقتصرنا البلاغة على المحسنات البديعية كالطباق والجناس والسجع وغيرها من الملونات البديعية التي يزخر بها القرآن، فهذه منتشرة في لغة العرب، وخطبهم وحتى أشعارهم. وهذه المحسنات البديعية على ضرورتها في النص الأدبي إلا أنها غير مُحبذة في النصوص التشريعية التي تفترض الاقتصاد في اللفظ والمباشرة في المعنى، ولقد لجأ الإنسان إلى الاقتصاد اللغوي حتى بلغ درجة الرمز كبديل للغة وذلك في الأمور التي لا تحتمل الخطأ والتأويل، المعادلات الفيزيائية والكيميائية والصيغ الرياضية، وغيرهما.

إن الفكرة المدهشة في القرآن، والتي أدهشت العرب، هي المزاوجة بين الشعر والنثر؛ ساعد على ذلك أن العرب لم يكونوا يعرفون من فنون الأدب، في ذلك الوقت، إلا فنيّ الشعر والخطابة، أما الفن النثري فلم يكن بذي بال على الإطلاق، فلم تكن الحكايا والقصص لم تكن فنوناً أدبية تصاغ بطريقة أسلوبية تحكمها قوانين كالتي تحكم كلًا من الشعر والخطابة، والمزاوجة بين فنيّ الشعر والنثر هو ما جعل من النص القرآني نصًا جذابًا وغريبًا في ذات الوقت؛ ولذا فلقد وقف العرب أمام هذا الفن الجديد بدهشة بالغة، في محاولة لتفكيكه ومعرفة ماهيته وكنهه.

إن المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه فكرة الله، هو (الإطلاق) في كل شيء، فكل ما يعجز عنه الإنسان، وما يفوق تصوّراته وقدراته يدخل مباشرة ضمن الإطار الإلهي: إما قدرة، أو معرفة، أو إدراكاً، أو حتى مشيئة. وهذا الإطلاق، الذي هو أهم صفات الذات الإلهية، هو نفسه العيب الوحيد الذي يعتريها، وربما كان العيب القاتل الذي فيه فناء الفكرة نفسها. وسوف أتطرق إلى إشكاليات الإطلاق بشيء من التفصيل في مبحث آخر، ولكن يهمني في هذا المبحث أن أربط هذه الجزئية بمسألة جدلية النص والتأويل، وهو صلب المبحث وجوهره، وفي سبيل تحقيق هذا الغرض، دعونا نتناول بعض الأمثلة على تجاوز التأويل للنص، ودلالات ذلك:

فإذا قلنا مثلًا: A [لا تخرجوا من بيوتكم] فهذا [نص]، ولو نظرنا إلى هذا النص لوجدنا أنه محتوٍ على [معنى] واضح ومحدد، وبإمكاننا تغيير النص دون الإخلال بالمعنى على الإطلاق، كأن نقول: [لا تتركوا بيوتكم] أو [لا تغادروا بيوتكم]، وهكذا نرى أن النص يتغيّر، ولكن تظل الفكرة والمعنى واضحين في كل نص. ولو حاولنا ترجمة النص إلى لغة أجنبية (الإنكليزية مثلًا)، فرغم أنه توجد عدة طرق لصياغة النص؛ إلا أنه سوف لن يختلف اثنان في ترجمة المعنى، لأننا في الحقيقة نترجم المعنى وليس النص، فنقول: [Do not go out of your houses] أو [Do not leave your houses] أو [Do not get out of your houses] فلا اختلاف يُذكر بين المعنى العربي والمعنى الأجنبي، فالمعنيان واضحان، ومن هذا الوضوح نستنتج [الحكم] وهو منع الخروج من البيت، ويلاحظ في هذا النص أنه لا توجد استثناءات على الإطلاق، فهذا النص يحتوي، داخل معناه، في حكمه عدم الخروج من البيت في أي وقت: حاضري أو مستقبلي، ولأي سبب: مشروع أو غير مشروع، فإن كان المعنى بهذا الوضوح فإنه لا يوجد مُبرر واحد بالقول أن هذا المعنى قد يختلف تأويلًا في أزمنة لاحقة يُصبح فيها الخروج أمرًا ضروريًا، لأن هذا التأويل يعني أن واضع النص لم يضع هذا التطوّر الزماني في حُسبانه، وهو ما لا يُمكن أن ينطبق على الذات الإلهية المطلقة، ولهذا فإن هذا النص مُحكم، إذ لا يحوجنا إلى التأويل، فالتأويل داخل معناه الذي يحمله النص نفسه.

أما إذا قلنا مثلًا: B [لا تخرجوا من بيوتكم إلا في الأعياد] فإن النص يحصر الاستثناء في ما لا يمكن الاتفاق على تأويله، ولهذا فإننا نقول: إن النص غير واضح، ويحتاج إلى تأويل، حتى نفهم المقصود بكلمة [الأعياد]. فكيف يمكن استنتاج ماهية الأعياد المقصودة في هذا النص؟ وإذا افترضنا أن المقصود هو العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى مثلًا، فكيف يمكن الجزم بأن تأويلنا لهذا اللفظ هو المقصود بالتحديد دوناً عن سواه، لاسيما وأنه لم يقل (إلا في العيدين)؟ بل إنه يصعب علينا ترجمة النص ما لم نتمكن من فهم المعنى، لهذا السبب نقول: إن هذا النص غير مُحكم، ولن نقول إنه مُبهم، ولكنه مفتوح على احتمالات وتكهنات كثيرة، وإذا عرفنا أن خروجنا من بيوتنا في غير العيد المقصود قد يعرضنا لعقوبة أخروية شديدة، فإنه يتضح لنا خطورة أن نترك تأويل النص لغير كاتبه أو مُشرّعه. فنحن بإمكاننا أن نخمّن أن الأعياد قد تشمل (إضافة إلى أعياد المسلمين): أعياد الميلاد الشخصية، وأعياد المناسبات القومية، وأعياد الحب، وأعياد الأم، وأعياد العمّال ... وإلخ، فلا شيء في النص يمنعنا من ألا نخمّن ذلك. من هنا نستنتج أن النص إذا كان تشريعًا تترتب عليه عقوبة أو حكم فإنه لا أقل من أن يكون واضحاً لا لبس فيه، حتى يتمكن الإنسان من تنفيذ الحكم المحمول في النص؛ وإلا فإن الخطأ وارد.

حسناً؛ إذا كان الذي صاغ النص B هو الله ذو الصفات المطلقة، فهذا يعني أنه يعلم، بعلمه المطلق، أن النص غير واضح وقابل للتأويل، وهذا يعني أنه لا يجوز لنا القول: "إنه كان يعتقد أن النص واضح وغير قابل للتأويل"، لأن عدم وضوح النص واضح! وحيث أن الله ذو صفات مطلقة فإن جميع الاحتمالات الآتية يجب أن تبنى على هذا الأساس، فهو إما أراد (بإرادته المطلقة) أن يترك النص مفتوحًا للاجتهاد البشري بأن يختاروا الأعياد التي نخرج فيها، وتلك التي لا نخرج فيها، أو أنه شاء (بمشيئته المطلقة) أن يُخطئ البعض في فهم النص فيُعاقبهم، وأن ينجح البعض في فهم النص فيُكافئهم، ففي الحالة الأولى لن يكون النص نصًا إلهيًا، لأن التأويل البشري عمل على أنسنة النص، وبذلك سوف يفقد قداسته بصورة تلقائية، فنحن الذين قررنا أن نفهم (الأعياد) على أنها أعياد الميلاد، أو العيدين المعلومين للمسلمين. وفي الحالة الثانية سوف يكون الأمر تحصيل حاصل، لأنه مقضي مُسبقاً، فهو قد شاء أن يفهم هؤلاء وألا يفهم هؤلاء، ونكون عندها أمام معضلة التسيير والتخيير وإشكاليتهما العويصة.

فلنفترض أننا على ثقة بأن الله أراد أن يترك لنا الاجتهاد في النص، فإذا قلنا أن النص B تمت صياغته في حقبة لم تعرف فيها البشرية سوى عيد واحد فقط، فإن تأويلنا للفظ [الأعياد] بصيغة الجمع يُعتبر صحيحًا، لأن هذا العيد بتكراره سنويًا، سيكون عبارة عن أعياد، وسنرى أنه من الحكمة الإلهية أنه لم يقل: "لا تخرجوا من بيوتكم في العيد" بصيغة المفرد. (هذا رد مُعلّب وجاهز)، فإذا جاءت حقبة تالية كثرت فيها الأعياد، فإن تأويلنا للفظ [الأعياد] يُعتبر صحيحًا أيضًا، لأنها ليست عيدًا واحدًا، والنص واضح [أعياد] بصيغة الجمع ودون تحديد عيد بعينه، وعندها يكون السؤال: "كيف بالإمكان أن يكون هنالك تأويلان مختلفان وصحيحان في ذات الوقت؟" ألا يدل ذلك على تأويلنا تجاوز النص؟ ماذا إذا كان مُراد المُشرّع ألا نخرج من بيوتنا إلا في العيد الواحد المعروف في وقت كتابة النص، وأنه إنما جمع كلمة عيد على أعياد فقط ليبين لنا أن الخروج مسموح به في كل موسم للعيد سنويًا؟ أفلا يكون ذلك تجاوزًا للنص بإضافة أعياد أخرى على العيد الذي قصده المُشرّع؟ عندها سيكون فعل الخروج من البيت في غير العيد المقصود خرقاً للتشريع ويستوجب، على ذلك، العقوبة، ولكن مهلًا، ألم يكن يعرف المُشرّع أن هذا الاختلاف في التأويل سوف يحدث؟ بالتأكيد يعرف، فهو المُطلق؛ إذا هل سيُعاقبنا؟



:: توقيعي ::: الدينُ أفيون الشعوب.

“What can be said at all can be said clearly; and whereof one cannot speak thereof one must be silent”
  رد مع اقتباس
قديم 09-07-2015, 02:11 PM مُنْشقّ غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [2]
مُنْشقّ
عضو عامل
الصورة الرمزية مُنْشقّ
 

مُنْشقّ is on a distinguished road
افتراضي

تكلمنا في الجزء الأول من هذا المبحث عن تجاوز التأويل للنص، وعن استحالة توافر تأويلين صحيحين لنص واحد دون افتراض أن يكون أحدهما خاطئاً، وعرفنا، بشيء من التلميح، أن الأصل في النص القرآني هو تغيّر المعاني مع ثبات النص، في الوقت الذي يكون فيه المعنى هو حامل الحُكم، والنص هو حامل المعنى، ولا أعلم كيف تم التوفيق بين الأمرين على هذا النحو. ورأينا، كذلك، أن النص المُحكم هو ما يحمل تأويله داخله بحيث يُغني عن التأويل البشري بإضافة أو تقدير كما فعل بعض المُفسّرون في تفسير قوله: {{إن الساعة آتية أكاد أخفيها}}[طه:15] بأن المقصود هو (أكاد أُخفيها "من نفسي")، ويتبيّن هذا التشويش أكثر عندما نحاول ترجمة هذا النص إلى لغة أجنبية، فلقد حاول البعض ترجمة هذا النص بمعناه على النحو التالي: [Verily the Hour is coming - My design is to keep it hidden] [المصدر: Jannah.com] وترجمها آخر على النحو التالي: [Lo! the Hour is surely coming. But I will to keep it hidden] [المصدر: السابق] وترجمها آخر على النحول التالي: [Surely the hour is coming-- I am about to make it manifest] [المصدر: السابق] إن هذا الاختلاف الكبير بين هذه التفسيرات: [My design is to keep it hidden] و [I will to keep it hidden] و [I am about to make it manifest] يوضح الإرباك في ذهن المُفسّر، كما أنه يدل على أن النص الأصلي لم يكن قادرًا على حمل المعنى وإيضاحه، فأي هذه المعاني هي فعلًا مقصود الله ومراده؟

إضافة إلى ذلك فإن النص المُحكم هو ما لا يُمكن افتراض إطلاقه بعد قصره، ولا قصره بعد إطلاقه، فآية واضحة مثل: {{إنما حرّم عليكم: الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهل لغير الله به فمن اضطر غير باغي ولا عاد فإن الله غفور رحيم}} [النحل:115] فإن قوله (إنما) تفيد القصر، أي قصر المُحرّمات على ما سوف يرد في الآية إلا أن يضطر إليها اضطرارًا، وكأن ما لم يرد ذكره في هذه الآية فهو حلال، ورغم ذلك نجد أن محمّدًا (رسول الإسلام) يُحرّم أكل لحوم الحُمر الإنسية وكل ما له ناب من السبع، وهو ما لم يرد ذكره في الآية الواضحة والمحددة، وكأن الله يقول شيئاً، وهو يقول شيئاً آخر، وسوف نتناول علاقة النص القرآني بالحديث النبوي لاحقاً بشيء من التفصيل.

والآن، في هذا الجزء من المبحث سوف نعرض بعض التطبيقات الواقعية من النص القرآني. ولكن قبل الخوض في ذلك، فإنه تجدر الإشارة إلى نقطة مهمة للغاية، ألا وهي [الناسخ والمنسوخ] ولقد اختلف فقهاء المسلمين حول الناسخ والمنسوخ، ولا ضرورة لإقحامكم في مزالق هذه الاختلافات، فهو موضوع شائك وعصيب، ولكن أقول، باختصار، إن بعض الفقهاء يقولون بالنسخ؛ بل وبضرورته أيضًا، والبعض الآخر لا يعترفون بالنسخ على الإطلاق. فأما الفرقة الأولى التي تؤكد وجود النسخ فإنها تعتمد على نصوص يدل ظاهرها على وجود النسخ، وهذه الفرقة ليسوا على اتفاق كامل، فهنالك إشكالية أساسية بينهم تدور حول سؤال محوري: "هل من الممكن أن ينسخ الحديث النبوي النص القرآني أم لا؟" بعضهم يقول: "نعم" وبعضهم يرفض ذلك، ولكل فرقة حجتها، وسوف نتكلّم عن ذلك لاحقاً. أما الفرقة التي ترفض فكرة الناسخ والمنسوخ، فهي لا ترى في الآيات التي يعتمد عليها الفريق الأول دليلًا على النسخ في النص القرآني، بل تفسّره تفسيرًا آخرًا، وفيما يلي ذكر لمحاور صراع هاتين الفرقتين، وما يستندون إليه من أدلة.

أدلة القائلين بالناسخ والمنسوخ:
[1] {{ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}}[البقرة:106]
[2] {{وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل}}[النحل:101]

رد القائلين بعدم وجود ناسخ ومنسوخ في القرآن:
يرى هؤلاء أن المُفسّرون أخفقوا في تفسير كلمة (آية) إذ اعتبروا أنها تعني النصوص القرآنية، في حين أنهم يرون ن المقصود بالآية هو التشريعات الإلهية في الأديان السابقة، بل وحتى التشريعات العُرفية، وهم بذلك يرون أن النسخ هنا مقصود به نسخ القرآن للتوراة ولما تعارف عليه الناس قبل مجيء الإسلام، وليس نسخ القرآن لنفسه، وعلى هذا فهم يرون أن آيات القرآن نفسها لا تعارض بينها على الإطلاق، وإنما يكون التعارض الظاهر سببه سوء التأويل أو قصور الفهم، ولقد تكلمنا عن شروط النص المُحكم الذي يُغني عن التأويل الخارجي، وهو ما لا يتوفر في النص القرآني كما هو واضح حتى الآن.

النصوص المحتوية على الأحكام لابد لها أن تكون أوضح من أن تحتاج إلى تأويل بشري، فعندما نقرأ مادة أو فقرة في القانون الجنائي لدولة ما، تقول نصًا: [يُعاقب بالسجن لمدة ثلاث سنوات من تثبت عليه تهمة التزوير في أوراق الدولة الرسمية] فإن هذه المادة القانونية مُحكمة للغاية، ولا تحتاج من المُشرّع إلى شرح، وبالإمكان اعتبار هذا النص صالحًا لكل زمان ومكان، بحيث لا يُمكن أن نضطر إلى افتراض تأويل جديد بعد مرور عشرات السنين من صياغة هذه المادة. وإذا أراد المُشرّع أن يسمح لمُطبّق القانون أن يتحكّم في هذه العقوبة فعليه أن يُحدد ذلك نصًا إما في ذات المادة أو بفقرة منفصلة عنها، كأن يقول مثلًا: [يُعاقب بالسجن لمدة لا تقل عن ثلاث سنوات ولا تزيد عن سبع سنوات كل من تثبت عليه تهمة التزوير في أوراق الدولة الرسمية] ففي هذه الحال فإن لمُطبق القانون أن يزيد أو يُنقص في مدة العقوبة كما يشاء (بناءً على نص المادة) حسب تقييمه للجريمة. أما إذا كان نص المادة يقول: [يُعاقب القانون كل من ثبتت عليه تهمة التزوير في أوراق الدولة الرسمية] فإن هذا المادة، بهذه الصياغة، تُعتبر في العُرف القانوني (ثغرة) يُمكن التلاعب بها. وحيث أنه من غير الممكن إدراك ما يُريده الله من النص المُبهم، وحيث أن الرسالة اكتملت بوفاة محمّد (رسول الإسلام) وانقطع بذلك الوحي والاتصال بالسماء، وحيث أنه لا ديانة جديدة بعد الإسلام، فكان لابد أن تكون النصوص القرآنية أوضح بكثير مما هي عليه الآن، بحيث لا يختلف عليها المفسّرون، ولا ينفذ منها الطاعنون والمُتشككون، وهو ما لا يستعصي على إله له تلك المقدرات المُطلقة.

هنا يطرح سؤال هام نفسه بشدة: "ألا يُمكن اعتبار تجدد معاني النص امتدادًا للدين بعد اكتماله؟" إننا نقرأ قوله: {{اليوم أكملتُ لكم دينكم}}[المائدة:3] أفلا يدل ذلك على بطلان الاجتهاد لأنه {{كتاب أُحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير}}[هود:1] إن الذي يتراءى لي أن الاجتهاد في النص وتأويله يُعد طعناً في الآية رقم [1] من سورة هود، فهذه الآية توضح بشكل جلي أن القرآن كتاب مُحكم، أي مُكتفٍ بنفسه عن التأويل البشري، ومُفصّل أي لا يحتاج إلى شرح وتفصيل، واستمرار تجدد معاني النص الواحد يطعن في اكتمال الدين الذي قال به القرآن عن نفسه قبل 1400 سنة خلت. كما أنني، وإن كنتُ ضد فكرة اللجوء إلى التأويل البشري، إلا أنني أرى أن الأقدر على شرح وتأويل النص القرآني هم المُفسّرون الكلاسيكيون القدامى؛ إذ أن القرآن نزل بلغتهم اليومية، وهم أعلم بها من قوم دخلت في لغتهم اللحن والعامية، باختلاطهم مع الأعاجم، وهذا الأمر واضح بنص الآيات التي تقول:
[1] {{وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليُبيّن لهم}}[إبراهيم:4]
[2] {{إنا أنزلناه قرآناً عربيًا لعلكم تعقلون}}[يوسف:2]
[3] {{وكذلك أنزلناه حُكمًا عربيًا}}[الرعد:37]
[4] {{وكذلك أنزلناه قرآناً عربيًا}}[طه:113]
[5] {{قرآناً عربيًا غير ذي عوج}}[الزمر:28]
[6] {{كتاب فصّلت آياته قرآناً عربيًا لقوم يعلمون}}[قصلت:3]

هذا إضافة إلى الآيات التي توضح بجلاء أن القرآن نزل بلسان مُبين وفصيح، فالاعتماد الأقرب إلى التصديق هو ما يقول به الصحابة، لأن القرآن نزل عليهم وبلغتهم، فيكون بذلك تأويل ابن عباس وابن مسعود وغيرهما أدق وأصح من تأويلات المُفسّرين المُتقدمين، فمثلًا لا يُمكننا الاعتماد على تأويلات الماركسيين العرب في تأويل بعض نصوص الماركسية، خاصًة إذا خالفت تأويلات أنجلز ورفاقه، فهم الذي عاصروا كارل ماركس، وكانوا أعلم بما يعنيه وبما يقصده، وحتى بما كان يرنو إليه بنظريته. هذا يبدو لي أمر بديهي للغاية، ولا يُمكننا أن نكذب تأويلات أنجلز للماركسية أو لبعض أجزائها، فقط لأن الماركسيين العرب، يرون أن هذه التفسيرات غير منطقية، أو أنها لا تواكب المجتمعات العربية، فإذا صحّ ذلك فعلًا، فهذا يعني مُباشرةً، وجود خطأ في الماركسية، وليس في التأويلات الماركسية. [هذا فقط مثال للتوضيح!]

عمومًا، لا يهمني كثيرًا، في هذه المرحلة، أن أُشير إلى النصوص القرآنية التي تتعارض مع الأفكار العلمية، فحديثنا الحالي عن إشكاليات التأويل ومخاطره سوف يُوضح لنا أنه لا يُمكننا الاعتماد على التأويل البشري في الحُكم على نص ما بأنه متفق مع مُنجز علمي أم لا، فصبرٌ جميلٌ. يخطر ببالي تساؤل جوهري وأساسي يُفيدنا في هذا الجزء من المبحث: "هل القرآن كتاب نخبوي؟" ما دعاني لطرح هذا التساؤل هو كمّ المعارف التي يفترضها الفقهاء لفهم وتأويل النصوص القرآنية، فيتوجب لفهم النص القرآني ما يلي:
[1] الإلمام باللغة، وهو يشمل الإلمام بعلوم اللغة: البلاغة، والنحو، والتقديم والتأخير، والظاهر والباطن، وعلم الدلالة وعلم المعاني، والصرف والإعراب وغريب اللغة ... إلخ
[2] الإلمام بالفقه وأصوله وفروعه.
[3] الإلمام بعلوم القرآن، وهو يتضمن الإلمام بالقراءات، والإلمام بأسباب النزول، والإلمام بالناسخ والمنسوخ، والإلمام بالتجويد ... إلخ.

وفي كتاب [الإتقان في علوم القرآن] بالغ الحافظ السيوطي في تعداد علوم القرآن حتى جاءت في [80] نوعاً؛ فالظاهر من هذا كله إنه كتاب نخبوي لا يفهمه إلا القلة القليلة ممن تجمّعت لديهم كُل هذه المعارف، رغم أن القرآن جاء للناس كافة، وفيهم المثقف وغير ذلك، والمتعلم وغير ذلك، والعارف وغير ذلك، والمتفقه وغير ذلك، ولكن فلننس الآن أمر المعارف التي يجب أن يُلم بها المفسّر، ولنحاول إجراء بعض التطبيقات التأويلية على بعض النصوص القرآنية، ولن نتطرق، بالطبع، إلى الآيات الروحانية التي لا حُكم ولا تشريع فيها، كقوله: {{إنا أعطيناكَ الكوثر}} فنجهد أنفسنا في تأويل معنى [الكوثر] التي اختلف المفسرون حولها أيما اختلاف؛ فمعرفتنا الحقة أو المتوهمة بماهية الكوثر لا تؤثر، من قريب أو بعيد، في عملية التدين، كما أنها لا تؤثر في العقيدة في شيء، وسوف نعتمد في تطبيقاتنا التالية على آيات الأحكام والتشريعات، والتي بها يقوم الدين في الأساس.

إن سؤالًا عن حدّ الزنا لأي مُسلم، سوف يقودنا إلى التفريق بين الزاني المُحصن والزاني غير المُحصن، لأن العقوبة مترتبة على هذا الفارق الجوهري، والإجابة النموذجية المعروفة لدى كثير من المُسلمين عن حد الزنا هو:
[A] الرجم للزاني المُحصن والزانية المُحصنة.
[B] الجلد مائة جلدة للزاني غير المحصن والزانية غير المحصنة.

هذا هو ما عليه جمهور الفقهاء المسلمين، ولكن كيف تم استنباط هذا الحُكم من النص القرآني؟ سوف نحاول معًا الإجابة على هذا السؤال فيما يلي، ولكن قبل ذلك علينا أن نتساءل: "ما هو الإحصان؟" إن إجابة هذا السؤال تترتب عليه نتائج غاية في الأهمية، فالإحصان في لغة العرب (دون الدخول في متاهات لا داعي لها) هو (العفاف) وله معانٍ أخرى كثيرة لا تتعلق بموضوع حديثنا؛ لذا أغفلناها. وتقول العرب: "امرأةٌ حَصانٌ" (بفتح الحاء) فهي مُحصن، ومُحصنة، إذا عُرف عنها العفاف والعفة، ومن ذلك قوله: {{ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها}}[التحريم:12] ومن المعلوم أن السيّدة مريم لم تتزوّج، ومن أجل ذلك كانت تعرف باسم [العذراء]، ورغم ذلك فهي مُحصنة، أي حصّنت فرجها بالعفاف، وقد علمنا أن الزواج ليس شرطًا لازمًا للعفاف، فقد تكون المرأة متزوّجة وغير مُحصنة (=أي غير عفيفة) وقد يكون الرجل كذلك، وعلى هذا فالإحصان لا يعني الزواج على الإطلاق، فالزواج، وإن كان سبيلًا إلى الإحصان، إلا أنه لا يُعد شرطًا له بالضرورة. والآن، فلننس أمر الإحصان ومعناه مُؤقتاً، درءًا للتشويش، ولنفرد النصوص القرآنية التي تناولت عقوبة الزنا على النحو التالي (أرجو أن ننسى معرفتنا بمسائل الناسخ والمنسوخ، ولنعتبر أن الآيات التالية تنزل للتو):

[1] {{واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاشهدوا عليهن بأربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلًا}}[النساء:15]

مناقشة الآية:
[A] الكلام في هذا النص موجه للرجال بدلالة قوله: "من نسائكم"؛ فضمير المخاطبين [كم] يدل على أن النص يُخاطب الرجال.
[B] النص يتكلّم عن النساء "المتزوّجات" اللواتي اقترفن الفاحشة.
[C] الحكم الواضح من ظاهر الآية هو أنه إذا اقترفت امرأة "متزوجة" الفاحشة، فإنه يتوجب أن يشهد على ذلك أربعة شهود مُسلمين بالضرورة (بدليل قوله "منكم")
[D] إذا توفر الشهود المسلمون، وشهدوا بوقوع الفاحشة، فإن الحكم هو الحبس في البيت حتى الموت، وهو ما يُعرف في عصرنا بمُصطلح (الإقامة الجبرية).
[E] تسقط العقوبة المُقررة في حال لم يتوفر أربعة شهود مسلمين.
[F] قوله [في البيوت] منع لحصر البيت الذي تحبس فيه المرأة، فهو لم يقل: (فأمسكوهن في بيوتكم) أو (فأمسكوهن في بيوتهن) وإنما قال: (فأمسكوهن في البيوت) وبهذا فإن أيّ بناءً يُعتبر بيتاً، يُجزي لإقامة العقوبة.
[G] هنالك استثناء واحد فقط بقوله: (أو يجعل الله لهن سبيلًا) وهذا الاستثناء مرتبط بما قبله: (حتى يتوفاهن الموت)، فأجل الحبس إذن هو (حتى الموت) أو (حتى يجعل الله لهن سبيلًا).

مما تقدم نخلص إلى أن حُكم الزوجة التي تثبت عليها الفاحشة بشهادة أربعة شهود مسلمين هو الحبس في البيوت حتى تموت أو حتى يحل استثناء "مجهول" آخر لا نعلمه، ولكن عرفناه بقوله: (أو يجعل الله لهن سبيلًا) وهنالك نقطة هامة جدًا، فإن الإمساك في البيوت هي عقوبة، ولكن مدة العقوبة إما محكومة بالموت أو بالاستثناء المجهول الذي ورد في قوله: (أو يجعل الله لهن سبيلًا) وإذا أعدنا قراءة الآية من جديد يتضح ذلك أكثر {{فأمسكوهن في البيت (هذه عقوبة، فما مدة العقوبة؟) حتى يتوفاهن الموت (هذه مدة العقوبة) أو يجعل الله لهن سبيلًا (استثناء مجهول في مدة العقوبة)}} فكلمة (حتى) الزمانية تفيد ذلك، فعندما أقول [كُل حتى تشبع] تقيّد زمن الأكل بالشبع، وإن قلتُ: [كل حتى تشبع أو تحس بالتعب] فإن هنالك خياران في تقييد زمن الأكل: إما بالشبع وإما بالتعب، ولكن الأمر بالأكل يظل قائمًا في الحالتين.

[2] {{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}}[النور:2]

مناقشة الآية:
[A] الحُكم في هذه الآية عام لكُل الزناة: متزوجين وغير متزوجين فليست هنالك قرينة تجعلنا نفترض أن هذا الحكم خاص بغير المتزوجين أو بغيرهم.
[B] عقوبة الزاني والزانية هي: الجلد مائة جلدة
[C] هنالك شروط لإقامة العقوبة:
[C1] ألا تقل عدد الجلدات عن العدد المُحدد: {{ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله}}
[C2] أن يكون تنفيذ العقوبة علناً: {{وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين}}
[C3] القسوة في تنفيذ العقوبة، بدلالة: {{لا تأخذكم بهما رأفة}} وكذلك {{عذابهما}}

هل هنالك أي تناقض بين النصين؟ الإجابة الظاهرية الواضحة هي: "نعم" فالنص الأول يُحدد العقوبة بأنها الحبس في البيوت حتى الموت، والنص الثاني يُحدد العقوبة بأنها الجلد مائة جلدة، وهذا تناقض ظاهري واضح، ولا ريب فيه. وإن كان النص الأول حدد الفعل بالزواج، فإن النص الثاني جعله مفتوحًا دون تقييد، ورغم ذلك فإنه لا يمنع من أن يكون هنالك زان متزوّج أو زانية متزوّجة. كيف يُمكننا تفسير هذا التناقض إذن؟ الفقهاء اقترحوا طريقتين لحل هذا الإشكال بين النصين، فالذين يُؤمنون بوجود الناسخ والمنسوخ، كان الحل المثالي لديهم جاهزًا، ولا يحتاج إلى أيّ عناء، فالنص الثاني نسخ النص الأول، وألغى حُكمه؛ وكأنه (أي النص الثاني) كان المفتاح السحري لما أشكل علينا تأويله في النص الأول {{أو يجعل الله لهن سبيلًا}} فكأن الحُكم بالجلد مائة جلد هو السبيل الذي جعله الله لهن، ولقد رأينا كيف أن (حتى) الزمانية تقيّد مدة العقوبة ولا تلغيها، كما جاء في المثال السابق.

أما أولئك الذين لا يُؤمنون بالناسخ والمنسوخ في القرآن، فكان لهم رأي آخر. فهم بطبيعة الحال، لا يرون أيّ تناقض البتة بين آيات القرآن، ويعتقدون أن هذا التناقض مصدره التأويل الخاطئ. حسناً، هل ترانا أخطأنا في تفسير النص الأول، أم ترانا أخطأنا في تفسير النص الثاني؟ سوف أترك تعليقي على هذا حتى النهاية، ولكن ماذا يرى الذين لا يؤمنون بالناسخ والمنسوخ في القرآن في هاتين الآيتين؟ ببساطة وباختصار، فإنهم يُفسرون [الفاحشة] في النص الأول على أنها ما دون الزنا؛ فالفاحشة عندهم لا تصل حد الزنا، بل هو ما دونه: كالتقبيل، والمفاخذة، والتعري، والمداعبات الجسدية ... إلخ، فمن ثبتت لديه أن زوجته تمارس شيئاً من هذا فإن له الحق أن يحبسها في البيت حتى الموت. أما النص الثاني فهو يختص بمن يقدم على ممارسة الزنا بشكل واضح. ودليلهم على هذا التأويل هو استحالة الإشهاد على جريمة الزنا بأربعة شهود كلهم يرون ولوج المرود في المكحل، فهو بالنسبة إليهم شرط غير مُتحقق، ولا يجوز أن يشترط الله شرطًا غير قابل التحقق، كما أن المرأة التي تأتي بمثل هذه الأفعال، لا يُمكن نعتها بالزانية، فالزانية هي من تقترف الجريمة كاملة؛ بل وتحترفها ويستشهدون بذلك على آية {{الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك، وحُرم ذلك على المؤمنين}}[النور:3] فإذا كان الأمر كذلك، كان يجب أن يكون الحكم في النص الأول هو الطلاق وليس الإمساك، لأن زواج المؤمن من الزانية مُحرّم بنص الآية [3] من سورة النور، فكان التأويل الأرجح لديهم هو أن الفاحشة فعل أقل من الزنا بدرجات؛ ومن أجل ذلك كان الزنا مقترناً بالشرك الذي يستوجب، بينما الفاحشة تعتبر فسقاً يُمكن التوبة عنه بدليل قوله: {{واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توبًا رحيمًا}}[النساء:16] والضمير المتصل في قوله (يأتيانها) عائد على (الفاحشة) التي وردت في الآية التي قبلها مباشرة، وهذه الآية تدل على أنه يُقبل التوبة عن الفاحشة، ولا تقبل عن الزنا إلا بإقامة الحد؛ إذن فلا تناقض بين النصين على قولهم.

مُناقشة ما ورد في الآيات السابقة:
أولًا للرد على الذين لا يُؤمنون بوجود الناسخ والمنسوخ، فإن النص الأول يُحدد العقوبة بالحبس في البيوت {{فأمسكوهن في البيوت}}، بينما العقوبة في النص الثاني هي الإيذاء {{ومن يأتيانها منكم فآذوهما}} وإذا كان لا يوجد تناقض بين النصين، فإن هنالك تناقضاً واضحًا بين العقوبتين، ولنقرأ النصين من جديد: {{واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاشهدوا عليهن بأربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلًا (*) واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توبًا رحيمًا}}[النساء:15-16] فثمة تباين في العقوبة على نفس الجُرم (الفاحشة). ويُمكن استنتاج أن الآية الثانية خاصة بغير المتزوجين، فيكون الحُكم: [1] المتزوجة تحبس، [2] وغير المتزوجة تؤذى. كما أن الفاحشة ليست فعلًا أقل من الزنا، وهذا ما نستنتجه من فإننا من الآية [32] من سورة الإسراء التي تقول: {{ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساءَ سبيلًا}} فهذه الآية توضح بشكل جلي أن الزنا يُعتبر من الفاحشة، وعلى هذا تسقط حُجة من يقول بأن الفاحشة فعل أقل من الزنا. فالكلام في كل هذه النصوص عن الزنا، ولكن العقوبات تختلف، وهذا الاختلاف تناقض يحتاج إلى تفكيك. إن القول بعدم وجود ناسخ ومنسوخ يضعنا في حرج كبير أمام كمّ التناقضات الواردة في عقوبة الزنا فمرة تكون العقوبة الحبس، ومرة تكون الإيذاء ومرة تكون الجلد.

أما الذين يُقرون بوجود الناسخ والمنسوخ، فإنهم لا يرون التناقض البتة بين هذه النصوص، لأن النسخ حاصل، بإبطال حُكم قديم بحُكم آخر جديد. والسؤال الذي يطرق أذهاننا: [لماذا يُصدر المُشرّع حُكمًا، ثم يُلغيه مرّة أخرى؟] يقول الفقهاء أن النسخ رحمة من المُشرّع في تشريعه، ولا أدري لماذا لم تكن الرحمة منذ البداية؟ إن النسخ في القرآن يدل على اضطراب وتشويش المُشرّع في تشريع ما لا يختلف عليه الناس، كما أنه يطعن في التشريع وفي المُشرّع؛ إذ يتهمه بأنه لا يثبت على رأي، وأنه غير مستبصر بمستقبل الأحداث، وهو ما يتنافى مع صفة الإطلاق للذات الإلهية. إن الواجب المُناط بالمُسلم هو الإذعان لحُكم الله إذا قضى أمرًا، ولا يجب أن يكون هذا الحكم مزاجيًا أو متوافقاً مع ما تهواه أنفسهم، وهذا هو جوهر الآية {{وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم}}[الأحزاب:36] ولكن إقرار النسخ يقول بعكس ذلك، إذ قد يستجيب الإله لتذمر البعض أو استثقال تكليف ما فيأتي بنص جديد يُخفف الحكم في النص السابق، ومن ذلك أن آية رجم المحصنات عندما نزلت اعترض عليها سعد بن عبادة بقوله: "الله! إن أنا رأيتُ لُكاعًا (=اسم زوجته) مُتفخذها رجل فقلت بما رأيت، إن في ظهري لثمانين إلى ما أجمع أربعة؟" فنزلت آية الملاعنة، وهي كما قال المُفسرون "مخرج" من حد القذف، وكذلك لمّا نزلت الآية {{... وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به الله ... }}[البقرة:284] وذلك مما نقله ابن كثير، في تفسيره، نقلًا عن الإمام مُسلم بقوله: "عن أبيه عن أبي هريرة قال: "لما نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم – {{لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير}} اشتد ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جثوا على الركب وقالوا: "يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير" فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها {{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}} فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله: {{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا}} "[انتهى الاقتباس]

وإذا تتبعنا الآيات الأولى لسورة النور لوجدناها على النحو التالي:
[1] سورة أنزلناها وفرضناها وأنزلنا فيها آيات بيّنات لعلكم تذكرون.
[2] الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين.
[3] الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزاني لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحُرم ذلك على المؤمنين.
[4] والذين يرمون المُحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون.
[5] إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم.
[6] والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين.

حسناً، فلنناقش هذه الآيات، والتي بدأت بذكر أنها مفروضة (أي واجبة التطبيق) وواضحة (أي لا لبس فيها):
[2] النص الثاني من هذه السورة يوضح حكم الزاني والزانية بالجلد مائة جلد، ولا يوجد في النص ما يُفيد التقييد لا بزواج ولا بإحصان ولا بغيره: من زنا يُجلد مائة جلدة.
[3] النص الثالث يوضح مكانة الزناة بين المسلمين، فلا يحق للمؤمن أن يتزوج من مشركة ولا من زانية، وكذلك المؤمنة، فالزاني والمُشرك في مقام واحد بنص الآية، وطالما أنه لا يُعرف زنا الزاني إلا بافتضاح أمره بإقامة الحد، فإن إقامة الحد لا تعفي من تحريم تزويجه بالمُؤمنة.
[4] النص الرابع يتناول حد القذف، وهو قذف العفيفات من النساء سواء أكن متزوجة أم غير متزوجة، وفي هذا يشترط ألا يكون القاذف زوجها، إذ لو كان زوجها، فإنه ينطبق عليه حكم النص السادس، فهذا النص خاص بمن يقذف أي امرأة (غير زوجته) معروفة بالعفاف، فإن لم يستطع أن يثبت دعواه بأربعة شهداء فإنه يُجلد ثمانين جلدة.
[6] النص السادس، يتناول الأزواج الذين يتهمون زوجاتهم بالزنا ولم يكن يملكون أربعة شهداء كما تقرر في آية {{واللاتي يأتين الفاحشة من أزواجكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم}}[النساء:15] فمن لم يكن يملك أربعة شهداء فإنه يُضطر إلى الملاعنة كما هي صفته في بقية الآية التالية.

نلاحظ مما تقدم أنه لا ذكر للإحصان في عقوبة الزنا، ونلاحظ أنه لا وجود لعقوبة الرجم فيما تقدم، ولا وجود له في القرآن على الإطلاق، [يقول البعض إن آية الرجم منسوخة الخط باقية الحُكم، وسوف أتناوله في جزء منفصل من هذا المبحث] كما نلاحظ أن هنالك تعارضاً واضحًا بين عقوبة الزوجة الزانية في الآية [15] من سورة النساء {{فأمسكوهن في البيوت}}، وعقوبة الزانية في الآية [2] من سورة النور {{فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}} هذا التعارض يختفي إن نحن آمنا وصدقنا بوجود الناسخ والمنسوخ في القرآن، ولكن، وكما تقدم، فإن الاعتراف بوجود الناسخ والمنسوخ، يُؤدي بنا إلى الإقرار بما هو أخطر من تعارض النصوص القرآنية. فأيهما نختار: القول بتناقض آيات القرآن، أم القول بأن الله لا يستقر على رأي واحد؟ أم ترى هنالك تأويل آخر لهذه النصوص أو بعضها؟ فإذا كنا سنختار أن الإشكال هو في التأويل، فإننا سوف نتساءل عن قوله {{آيات بينات}} فأين البيان إذا كان هنالك تعارض في التأويل، مبني على إشكال في فهم المعنى؟

[يتبع ... ]



:: توقيعي ::: الدينُ أفيون الشعوب.

“What can be said at all can be said clearly; and whereof one cannot speak thereof one must be silent”
  رد مع اقتباس
قديم 09-07-2015, 02:43 PM مُنْشقّ غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [3]
مُنْشقّ
عضو عامل
الصورة الرمزية مُنْشقّ
 

مُنْشقّ is on a distinguished road
افتراضي

قدمنا في الجزء السابق من هذا المبحث تطبيقاً للتعاطي مع النص القرآني بالتأويل، ورأينا كيف أنه بالإمكان الخروج من النص الواحد بعدة تأويلات، واستعرضنا بعض الأقوال والتفسيرات المختلفة، وتكلمنا عن الناسخ والمنسوخ، وورطة إثباتها وورطة نفيها في آنٍ معًا، وكُنا قد أرجأنا الحديث عن علاقة النص القرآني بالحديث النبوي إلى وقتٍ لاحق، وقبل أن أدخل في جوهر هذا الجزء من المبحث أحببتُ أن أسوق مثلاً لحركة التأويل وثبات النص ودلالات ذلك:

إذا نظرنا إلى هذا النص: {{والشمس تجري لمستقر لها}}[يس:38] فإننا نجد المفسرين المتقدمين قد فسّروا جريان الشمس على أنها حركة ميكانيكية (من النقطة a إلى النقطة z)، وذلك بناءً على أحاديث نبوية فيها إشارة إلى هذا النوع من الحركة، فكان ذلك التفسير مثار سخرية الملاحدة الذين رأوا في هذه الآية، وغيرها من الآيات المشابهة، قراءة كونية خاطئة لما أثبته العلم، تلك الحقيقة القائلة بأن الشمس لا تدور حول الأرض، بل العكس هو الصحيح، في إشارة إلى أن النص القرآني يثبت لا كروية الأرض، وأنها مسطحة، حسب ما كان متوفرًا من معلومات[1] وهو ما يتنافى مع الحقيقة العلمية الثانية. وعندما أحس المفسرون هذا التعارض، راحوا يتحايلون على اللغة ليُخرجوا النص القرآني من ورطته، ففسروا جريان الشمس على نحو آخر غير الذي يحمله معنى الجريان الحسّي، مُستفيدين من فضفاضية اللغة ومرونتها، وكانوا على حق فيما ذهبوا إليه، فنحن نقول: "إن الأمور تجري على أكمل وجه"، بل وإننا نبالغ فنقول: "الأمور تجري على قدم وساق" فهنا لا تحمل كلمة [تجري] ذلك المعنى الحسّي للجريان، ولكن تدل على (السيرورة)، وكأن المعنى المختبئ وراء النص هو أن الشمس في سيرورة نحو مستقرها الذي يعلمه الله ويريده لها، وبهذا وجدوا مخرجًا لورطة النص.

كان هذا التأويل مريحًا ومقنعًا، حتى أثبت العلم أن كل الكواكب والأنجم في حركة دائمة، ما جدد الدماء في التفسير القديم مرة أخرى، وتم إلغاء التأويل القائل بالسيرورة، وهكذا نرى كيف أن النص متغير التأويل على الدوام مع ثباته. وفي الوقت الذي يتباهى فيه المؤمنون بثبات النص القرآني، فإنهم تجاهلوا إن هذه الحقيقة (أي ثبات النص) تسري على كل النصوص المكتوبة، وهي ليست بإعجاز حصري على القرآن إطلاقاً، فهذا المبحث الذي أكتبه يكتسب صفة الثبات بمجرد أن أنقر على زر [إرسال] فما الإعجاز في ذلك؟ إن الإعجاز الحقيقي يكمن في أن يكون المعنى ثابتاً مع تغيّر النص، وليس العكس.

ولكن بقراءة مُتأنية لهذا النص: {{فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فآت بها من المغرب}}[البقرة:258] فإننا نكتشف أن الفكرة الأساسية هي أن الشمس تجري وتتحرك وتدور حول الأرض، وهذا ما يدعمه هذا النص، كما أنه يدعم فكرة أن الأرض مسطحة؛ لاسيما إذا ما عولج النص بكمّ النصوص التي تحمل هذا المعنى ظاهريًا، والحقيقة أن الشمس لا (تأتي) من المشرق ولا من المغرب، فهي ثابتة بالنسبة إلى الأرض، والأرض هي التي تدور حولها، وبهذا يكون الشروق المغيب، والإتيان يعني: جلب الشيء (من النقطة a إلى النقطة z)، وهو ما يثبت الرؤية البدائية التي كانت متوفرة منذ عصور سحيقة لحركة الكواكب، ولطبيعة الأرض، في القرن السادس عشر الميلادي.

في هذا الجزء الأخير من المبحث سوف نتطرق إلى علاقة النص القرآني بالسُنة النبوية بشيء من التفصيل؛ إذ أن هذه النقطة سوف تحسم قضايا التناقض والتباين بين النص القرآني والحديث النبوي. وقبل أن نناقش هذه المسألة فإنه تجدر بنا الإشارة إلى قيمة الحديث النبوي بالنسبة للتشريع الإسلامي؛ إذ يرى جمهور الفقهاء أن الحديث النبوي (السُنة النبوية) يعد أحد مصادر التشريع الإسلامي، والسُنة النبوية كما هو معلوم، مقسمة إلى:
[1] سُنة قولية: وهي الكلام المنقول بإحدى طرائق الإسناد منسوبًا إلى محمّد (رسول الإسلام) كقوله: "من رأى منكم مُنكرًا فليغيّره بيده ... الحديث"
[2] سُنة فعلية: وهي الأفعال المنقولة المنسوبة إلى محمّد (رسول الإسلام) كصلاته.
[3] سُنة تقريرية: وهي ما أقره محمّد (رسول الإسلام) على أصحابه، كإقراره لمن أفطر أو واصل الصوم في السفر.

الحقيقة أن هنالك إشكالية كبيرة في اعتماد مصادر التشريع الإسلامي، لاسيما السُنة النبوية، وتتأتى هذه الإشكالية من كون السُنة النبوية تطبيقاً عمليًا لواقع النص القرآني، فعندما نقرأ: {{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزءاً بما كسبا}}[المائدة:38] فإن هذا يُعتبر تشريعًا إسلاميًا لازم التطبيق، سواء وردَ في السنة أن محمّدًا قطع يد أحدهم أم لم يرد، فلا حاجة إلى ذلك طالما أن هنالك نص صريح، فإذا فعلها فلا يُمكن وصفها بأنها سُنة نبوية، ولكنها تكون تطبيقاً لشرع إلهي، كما أن موافقة السُنة لنص القرآن لا يعتبر إلا امتدادًا للنص القرآني ولا يُمكن اعتباره تشريعًا مُستقلاً. يكمن إشكال السُنة النبوية فيما تعارض ظاهريًا مع نص صريح أو تشريع أمر لم يرد في القرآن على الإطلاق، فمن أمثلة ما يتعارض مع النص القرآني الصريح: تحريم السُنة النبوية لزواج المُتعة رغم ورود آية صريحة تبيحه؛ إذ نقرأ: {{... وأُحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم مُحصنين غير مُسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جُناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ... }}[النساء:24] هذه الآية تجيز صراحة زواج المُتعة، والمُتتبع لسياق النص وما قبله، يفهم أن النص السابق أورد قائمة من النساء اللواتي يحرم على الرجل الزواج بهن [راجع الآية "23" من سورة النساء] {{حُرّمت عليكم أُمهاتكم وبناتكم وأخواتكم ... }} ثم جاءت هذه الآية لمواصلة تبيان النساء المُحرمات على الرجال الزواج منهن من غير ذوات القربى وصلة الدم. فالسُنة النبوية تضيف على المحارم في قوله: {{وأن تجمعوا بين الأختين}} كذلك: "لا يُجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها" وهو مما لم يرد في نص الآية، وكذلك مما رواه علي بن أبي طالب من تحريمه لزواج المتعة بعد غزوة خيبر، رغم أن نص الآية واضح وصريح. وفيما يلي أمثلة لأحاديث نبوية تناقض صريح النص القرآني أو تضيف عليه ما ليس فيه:

[1] المسح على الخفين:
"عن المغيرة بن شعبة أن أوضأ النبي، فأهوى لينزع عنه خفيه، فقال له النبي: "دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين" فمسح عليهما"[المصدر: صحيح البخاري (206) وصحيح مسلم (274)] وسئل الإمام أحمد بن حنبل عن المسح على الخفين فقال: "ليس في قلبي من المسح شيء‏.‏ فيه أربعون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه"[المصدر: مجموعة فتاوى الشيخ بن عثيمين] ولم يرد في القرآن نص يوضح مشروعية المسح على الخفين، رغم ورود آية قريبة من ذلك: {{يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ....}}[المائدة:6] فالآية تنص على مسح الأرجل وليس مسح الخفين، ومن نص الآية يتضح أن اليدين (إلى المرافق) والوجه مما يُغسل، وأن الأرجل والشعر مما يُمسح، ومن غسل قدميه في الوضوء فقد خالف نص الآية، لأن المطلوب المسح عليها وليس غسلها.

[2] الجمع في الصلاة:
عن ابن عباس قال: "إن النبي صلّى بالمدينة سبعًا وثمانيًا الظهر والعصر والمغرب والعشاء". فقال أيوب: "لعله في ليلة مطيرة؟" قال: "عسى"[صحيح البخاري: 452] وكذلك حديث معاذ بن جبل أن النبي كان في غزوة تبوك إذا ارتحل بعد المغرب، عجل العشاء ، فصلاها مع المغرب." وأيضاً حديث أنس: "كان رسول الله إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل يجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل، صلى الظهر، ثم ركب ".ولم يرد في جمع الصلوات نص قرآني واحد، رغم أنه شرّع القصر في الصلاة: {{وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا}}[النساء:101] وهي هنا مرتبطة بالخوف من إغارة العدو، وهو ما يُعرف لدى الفقهاء بصلاة الخوف.

[3] مصافحة النساء:
عن عروة بن الزبير أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أخبرته أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية بقوله تعالى: {يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك} إلى قوله {غفور رحيم} قال عروة: قالت عائشة: فمن أقرّ بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد بايعتك ـ كلاماً ـ ولا والله ما مست يده يد امرأة قط في المبايعة، ما يبايعهن إلا بقوله: قد بايعتك على ذلك". [المصدر: صحيح البخاري 8/810] وكذلك عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية {لا يشركن بالله شيئاً} قالت: وما مسَّت يدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَ امرأة إلا امرأة يملكها". [المصدر: صحيح البخاري 13/251] ولم يرد في القرآن نص واضح يُحرّم مصافحة النساء الأجنبيات.

[4] العبادة بالوكالة:
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "إن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت: "إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟" فقال: "نعم حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أُمك دين أكنتِ تقضينه؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء"[المصدر: 1883] هذا الحديث يتنافى مع صريح الآيات التي تقضي بأن كُل إنسان مسئول من أعماله وأفعاله، كقوله: {{وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه}}[الإسراء:13] وكذلك: {{ولا تزر وازرة وزرة أخرى}}[الإسراء:15] وكذلك: {{من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها}}[فصلت:46] وكذلك: {{من عمل سيئة فلا يُجزى إلا مثلها ومن عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}}[غافر:40] فالحساب يكون على الأعمال التي كسبها المرء بنفسه، وليس بالوكالة عنه. وهو أيضاً يُناقض أحاديث أخرى تدل على انقطاع عمل المرء بعد موته، وأحاديث أخرى تدل على أن من هم بالحسنة ولم يفعلها كُتبت له، فيسقط عندها أداء العبادات والنذور عن الميت بموته.

[5] عقوبة ترك الصلاة
عن أبي هريرة رضي الله عن قال: قال النبي(صلعم): "لقد هممتُ أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى منازل قوم لا يشهدون الصلاة فأحرقها عليهم"[صحيح البخاري:2459] هذا الحديث يتنافى مع المنهج القرآني المختص بالعبادات، فلا توجد عقوبة واحدة واردة في القرآن على ترك العبادة، وخصص لها عقوبات آخروية وليست دنيوية. وإذا افترضنا أن سلوكه في هذا الحديث نابع من تشريع إلهي ما لم يتم ذكره في القرآن مثلاً فإن عدم إقدامه على فعل ذلك يُعد من باب التقصير في التشريع حتى وإن كان من باب المُبالغة والتهويل.

وهنالك العديد من الأمثلة التي توضح لنا تناقضات بين النص القرآني والسُنة النبوية سواءً القولية أو الفعلية أو حتى التقريرية، ولكن اكتفي بما ورد من أمثلة لظني أنها كافية للإيفاء بغرض الاستشهاد. إن الذين يقولون بأن السُنة النبوية مصدر من مصادر التشريع يعتمدون في ذلك على آيات يأتي فيها ذكر طاعة الرسول مقترنة بطاعة الله، كقوله: {{وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}}[آل عمران:132] وهذا استشهاد قاصر في الحقيقة، لأن طاعة الرسول هنا، هي طاعته فيما أبلغه عن الله، أي من النص القرآني وحيًا، لأن افتراض هاتين الطاعتين منفصلتين يُؤدي بنا إلى وضع أحدهما في ميزان المفاضلة، فماذا إذا ناقض قول الرسول نص آية صريحة مثلاً؟ ولقد صدق ابن مطعون حين رفض أن يُجلد حدًا على شرب الخمر فقال: "بيني وبينكم كتاب الله"، ولكن عمرًا شرّع ذلك من عنده تعزيرًا، وذهب ما كان يخشاه ابن مطعون، فقد أصبحت عقوبة شرب الخمر حدًا معمولاً به حتى يومنا هذا، رغم أنه لا يوجد نص قرآني واحد يُشرّع لعقوبة شرب الخمر، ومثله لترك الصلاة، ومثله السحاق واللواط، ولا يعني ذلك أنها مُباحة، ولكن لا يوجد لها تشريع إلهي قرآني، فهل نقول بأن شرع الله ناقص، فجاءت السُنة لتكمله؟ كما أننا لو صدقنا كون السُنة النبوية مصدرًا من مصادر التشريع بناءً على ارتباط الأمر بطاعته بالأمر بطاعة الله، فماذا نفعل بآية من مثل: {{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم ...}}[النساء:59] فهل يكون لأولي الأمر سُنة أيضاً يُمكن اعتبارها مصدرًا ثالث من مصادر التشريع؟

إن أغلب الفقهاء يستدلون بحجيّة السُنة في التشريع بناءً على أن السُنة تفصيل لما أُجمل في النص القرآني، وشرح لما أوجز رغم أنهم يقرءون قوله عن القرآن: {{لا تحرك لسانكَ لتعجل به (*) إنا علينا جمعه وقرآنه (*) فإذا قرأناه فاتبع قرآنه (*) ثم إن علينا بيانه}}[القيامة:16-19] فالنبي نفسّه مأمور بأن يتبع القرآن، كما أن هذه الآية توضح أن شرح القرآن وتبينه مسئولية الله، وليست مسئولية محمّد، فكيف بعد ذلك يُمكن اعتبار السُنة النبوية مُكمّلة أو شارحة للنص القرآني؟ وإذا افترضنا أن السُنة كذلك، فهذا يعني أن السُنة جزء من التشريع الإلهي لأنه (كما يعتقد البعض): {{وما ينطق عن الهوى (*) إن هو إلا وحي يوحى}}[النجم:3-4] فالاعتقاد أن كل ما ينطق به محمّد هو وحي يُوحي به الله إليه، ولكننا نعلم أن الوحي لا يكون إلا بالقرآن، فيكون المقصود بالآية هو نفي بأن يكون القرآن كلام محمد، وتأكيد على أنه وحي يُوحى إليه. ولكن فلنفترض جدلاً أن كل ما ينطبق به محمّد (بغير القرآن) هو وحي إلهي، أفلا يتضمن ذلك اعتبار أن السُنة جزء من الذكر المقصود في قوله: {{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}}[الحجر:9] على اعتبار أن تشريعات السُنة النبوية وحي إلهي نازل من السماء؟ إن الحقيقة الساطعة التي نعلمها أن السُنة النبوية خضعت لتحريفات وإضافات كبيرة، حتى أن الإمام جلال الدين السيوطي خصص كتابًا كاملاً لحصر الأحاديث الموضوع بعنوان: [اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة] وهو كتاب يأتي في [600] صفحة تقريبًا، ناهيكم عن الأحاديث الضعيفة؛ فهل لم يحفظ الله شرعه؟ إن اعتبارنا السُنة النبوية مصدرًا من مصادر التشريع يطعن في حفظ الله لشريعته، حيث أنه اختص القرآن بالحفظ، وترك السُنة (الشارحة للقرآن) نهبًا لضعاف النفوس يُحرفون ويضعون فيه ما يشاءون، وهذا لا يتوافق ولا يتماشى مع العقل والمنطق في شيء، فالراجح عندها ألا تكون السُنة النبوية جزءًا من التشريع ولا مصدرًا من مصادره، فإذا كان كذلك، فكيف يُمكن لها أن تنسخ القرآن؟

إن الحقيقة العقلية الجلية أمامنا، أن القرآن كتاب يُفترض أنه مُكتفٍ بذاته ونصوصه عن شرح غيره، وإذا كان ذلك صحيحًا، فلا يجب أن نقول بأن السُنة النبوية مكملة أو شارحة له، ناهيكم عن أن تكون ناسخة للقرآن، فلا يصح أن يكون المُحرّف أو المُعرّض للتحريف سندًا ودليلًا على غير المُحرف والذي تعهده الله بالحفظ ، فإذا كان محمد (رسول الإسلام) نفسه، غير مخوّل بأن يُفتي في التشريع إلا بما جاء به نص صريح في القرآن عبر الوحي، فكيف لنا أن نأخذ باجتهادات الفقهاء الذين ليس لهم أي اتصال مُباشر بالسماء؟ ويتبقى أمامنا مصدرين من مصادر التشريع: [1] الإجماع [2] القياس، فأما الأول فهو غير مُتحقق حتى في بعض ما نصّ عليه نص قرآني، فنرى أن التأويل والتفسير أفسد الإجماع في كثير، حتى ظهرت الفرق الإسلامية المُختلفة، ومنها ما يختلف على ما يظنه كثير من الناس من الأصول الثابتة التي لا خلاف عليها ألا وهو (قضية التوحيد)، ونظرة مُتفحصة لما عليه الشيعة والمعتزلة، يُظهر أن هنالك اختلافات واسعة تمس صُلب العقيدة نفسها، وهذا ما دفع الفرق الإسلامية إلى تكفير بعضها بعضاً. وأما عن القياس فلا يُمكن أن يكون مصدرًا من مصادر التشريع، لأنه [1] يعتمد على الفهم الجيّد والصحيح لنصوص الآيات، ولقد رأينا كيف أنه لا يُمكن التوثق من ذلك البتة [2] كما أن محمّداً (رسول الإسلام) لم يرد عنه قياس في حكم شرعي على الإطلاق. وإن نحن أجملنا النتائج المنطقية التي توصلنا إليها، خرجنا بأن القرآن نص تاريخي مُختص بزمان ومكان مُحددين، ولم يكن صالحًا للإسقاط على أي زمان ولا أيّ مكانٍ آخرين، ولقد رأينا كيف بدأت الخلافات العقدية الكُبرى منذ أن خرج الإسلام من الجزيرة العربية. ويبقى نقاشنا هذا في مقام مُناقشة التراث لفهم التاريخ لا أكثر.

إن النص القرآني صيغ ليكون متلائمًا مع البيئة التاريخية والاجتماعية الذي جاء فيه، وهذه الاختلافات الكبرى التي يقع فيها الفقهاء على الدوام، ما هي إلا نتائج محاولاتهم غير المنطقية لسحب واقع النص التاريخي وإسقاطه على واقع آخر، حتى وإن حاولوا تشذيبه وتهذيبه فإنه يبقى خارجًا عن سياقه المفترض، وهو ما يضع النص القرآني نفسه في ورطات كبيرة لم يكن له أن يقع فيها لولا هذا الإصرار. أقول ذلك دون أن أنسى تاريخ الفقه الإسلامي المتأخر بالنسبة إلى تاريخ الإسلام نفسه. إن الأمر على هذا الحال أشبه بمحاولتنا تطوير آلة بدائية (كالرماح والسيوف) في عصر القنبلة الذرية والصواريخ الذكية، فمهما اجتهدنا وأبدعنا في تطويرها، فلن تكون متوائمة لعصرنا الحالي على الإطلاق، بل سوف تجعلنا نبدو كمن يهرول خارج التاريخ أو على هامشه. ليس بوسع القرآن كنص تشريعي أن يكون تشريعًا متكاملًا إلا في عصره وفي أوانه، وإن إخفاقه في مواكبة مشكلات العصر الحالي تجعلنا نطرح تساؤلاً غاية في الأهمية: هل أُريد للقرآن أن يكون كتابًا للعرب في ذلك الزمان، أم كتابًا للمسلمين في كل زمان ومكان؟ إن الإجابة على هذا السؤال تقبع في إجابة سؤال آخر أكثر أهمية وأكثر شراسة: "هل القرآن كلام الله فعلاً؟" إن كل ما تقدّم من تحليل يُوضح أحد أمرين: [1] إما أن يكون كلام الله، وتكون تاريخانية النص القرآني إرادة إلهية مُسبقة، بحيث يتم تطبيقها على واقع ذلك الزمان وحيثياته، لأنه إذا كانت إرادته أن تكون صالحة لكل زمان ومكان، فقد فشل في ذلك تمامًا. [2] وإما ألا يكون كلام الله، وعندها ستصبح الأمور واضحة وجلية ومفهومة.

النص، لكي يكون إلهيًا، يجب أن يكون ذا مواصفات إلهية خارقة ومُعجزة فعلًا، إن نصًا مثل: {{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}}[المائدة:38] نص مُحكم وواضح، ورغم ذلك فإن الفقهاء يُشيدون بما فعله عمر بن الخطاب عندما قام بتعطيل حد السرقة عام المجاعة، رغم أن النص لم يكن فيه استثناء على الإطلاق، فهل كان عمر بن الخطاب أرحمَ بالناس من الله؟ هل لم يعلم الله أنه ستكون هنالك أعوام مجاعة يُضطر فيها أحدنا للسرقة لكي يأكل؟ الإجابة هي: بلى، كان يعلم. إذن، لماذا لم يضع استثناءات لمثل هذه الحالات؟ والإجابة المُتاحة لدينا من نص الآية هي: إنه لم يُرد أن يضع أي استثناءات. إنه كمثال [لا تخرجوا من بيوتكم] الوارد في الجزء الأول من هذا المبحث، فهل بإمكاننا أن نضع استثناءات من عند أنفسنا ثم نعتقد أن هذا هو حُكم الله؟ ولم يكن فيه بيان بنصاب السرقة الموجب للسرقة، ورغم ذلك نجد الفقهاء يُفتون في النصاب ومقداره الموجب للحد.

إن اللغة ليست مجرد نصوص، والنصوص ليست مجرد حروف متراصة؛ فاللغة معنى، وما النص إلا حامل لهذا المعنى، فإذا أخفق النص في إيضاح المعنى وإيصاله، فإنها تكون لغة مبهمة، فإذا قلتُ: "شربتُ الماء حتى آخري" فهذا نص مبهم وغير مفهوم، لم يحمل المعنى الذي أريد إيصاله، وهو أنني شربت الماء كُله، فكان لابد أن أقول: "شربت الماء عن آخره"

علينا أن نتساءل: "لماذا يتغير تأويل النص القرآني ولا يتغير تأويل النصوص الشعرية كما في المعلقات العشر مثلًا، رغم أنها نصوص لم تكن مكتوبة ولا معهودة بالحفظ الإلهي، ولم تكتب إلا بعد سنوات طويلة جداً من صياغتها؟" ليس هنالك اختلاف في شروح المعلقات العشر كما في اختلاف تفسير النصوص القرآنية سواءٌ لدى نفس المفسر أو بين عدة مفسرين، فقد نجد أكثر من عشر تفاسير لآية واحدة، ومازال اختلاف التأويل قائمًا حتى اليوم، وسوف يستمر طالما أن الإنسان لا يكف عن الإنجاز والابتكار والمعرفة، هل بإمكاننا القول بأن المعلقات العشر تتمتع بميزة إعجازية ما؟ هل يمكن أن نقول إنها نصوص أكثر دقة ووضوحاً من النص القرآني؟ إنه بإمكاننا القول، بوثوقية كاملة، أننا ننطق أبيات معلقة عنترة كما نطق بها، وأننا نفهما كما أراد لنا أن نفهمها، وكما فهمها مُعاصروه، لكن هذه الميزة غير متوفرة في القرآن، فكثيرًا ما تمر علينا عند قراءة كُتب التفاسير عبارة: "وقرأها ابن مسعود كذا وكذا" أو "وقرأها ابن عباس كذا وكذا". وفي مبحث قصير للأستاذ: صالح لحلوحي عن القراءات الشاذة أورد عددًا كبيرًا من القراءات التي خالف فيها ابن مسعود المتفق عليه في القراءات نورد منها ما يلي:
[1] {{هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور}}[البقرة:210] قرأها ابن مسعود {{هل ينظرون أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام}}
[2] {{ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}}[البقرة:106] قرأها هكذا: {{ما ننسكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها أو خير منها}}
[3] {{خلق الإنسان من عَجَل}}[الأنبياء:37] قرأها هكذا: {{خلق العَجَل من الإنسان}}
[4] {{يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها}}[النور:27] قرأها هكذا: {{.. حتى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا ..}}
[5] {{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ...}}[البقرة:127] قرأها هكذا: {{وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ويقولان ربنا تقبل منا ..}}
[6] {{ إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما }}[البقرة:158] قرأها هكذا: {{ ... فلا جناح عليه ألا يطوّف بهما}}
[7] {{ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم، فإذا أفضتم من عرفات ...}}[البقرة:198] قرأها هكذا: {{ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج، فإذا أفضتم من عرفات ...}} وكذلك قرأها ابن عباس.
[8] {{فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن: أيتها العير إنكم لسارقون}}[يوسف:70] قرأها هكذا: {{... جعل السقاية في رحل أخيه وأمهلهم حتى انطلقوا، ثم أذن مُؤذن أيتها العير إنكم لسارقون}}
[9] {{... وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً}}[الكهف:79] قرأها هكذا: {{... وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً}} وكذلك قرأها أبي بن كعب
[10] {{... فقبضتُ قبضة من أثر الرسول، فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي}}[طه:96] قرأها هكذا: {{... فقبضتُ قبضة من أثر فرس الرسول، فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي}}
[11] {{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم}}[الزمر:53] قرأها هكذا: {{... إن الله يغفر الذنوب جميعًا لمن يشاء ...}}
[المصدر: مجلة المخبر، العدد الأول 2009]
[12] {{والليل إذا يغشى (*) والنهار إذا تجلى (*) وما خلق الذكر والأنثى}}[الليل:1-3] قرأها هكذا: {{والليل إذا يغشى (*) والنهار إذا تجلى (*) والذكر والأنثى}}

وقبل أن نحكم على قراءات عبد الله بن مسعود بالشذوذ ومخالفة المتفق عليه من جماعة القراء والعلماء، فإنه يتوجب علينا ألا ننسى الأحاديث التي جاءت تذكر مناقبه، ومنها على سبيل المثال، ما ورد في صحيح البخاري حديث رقم (3809): "استقرئوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبى بن كعب، ومعاذ بن جبل." وكذلك: "عن عبد الرحمن بن يزيد،، قال سألنا حذيفة عن رجل، قريب السمت والهدى من النبي صلى الله عليه وسلم حتى نأخذ عنه فقال ما أعرف أحدا أقرب سمتا وهديا ودلا بالنبي صلى الله عليه وسلم من ابن أم عبد‏"[صحيح البخاري، حديث رقم:3808] وكذلك: "عن علقمة، دخلت الشام فصليت ركعتين، فقلت اللهم يسر لي جليسا‏.‏ فرأيت شيخا مقبلا، فلما دنا قلت أرجو أن يكون استجاب‏.‏ قال من أين أنت قلت من أهل الكوفة‏.‏ قال أفلم يكن فيكم صاحب النعلين والوساد والمطهرة أولم يكن فيكم الذي أجير من الشيطان أولم يكن فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه غيره كيف قرأ ابن أم عبد ‏{‏والليل‏}‏ فقرأت ‏{‏والليل إذا يغشى * والنهار إذا تجلى * والذكر والأنثى‏}‏‏.‏ قال أقرأنيها النبي صلى الله عليه وسلم فاه إلى في، فما زال هؤلاء حتى كادوا يردوني‏.‏"[صحيح البخاري، حديث رقم:3807] وكذلك الحديث المشهور: "من أحب أن يسمع القرآن غضا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد[2]" وهو نفسه الذي أفتى بتحريم الغناء اعتمادًا على تفسير (لهو الحديث) قوله: {{ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله}}[لقمان:6] بقسم مغلظة: "والله إنه الغناء" فأخذ جمهور الفقهاء السلفيون عنه دون تردد، والأحاديث في مناقبه كثيرة ولا تحصى، وعلى هذا فإننا نصبح أمام أمرين لا ثالث لهما: [1] فإما أن عبد الله بن مسعود حرّف القرآن رغم كل المناقب التي عرفناها عنه، ورغم مدح النبي له. [2] وإما أن القرآن الذي بين أيدينا الآن مُحرّف ولما يصلنا كما نزل.

إنه بقليل من التصالح مع الذات، سوف نجد أن القول بأن القرآن ليس كلام الله، هو أكثر احترامًا من القول بأنه كلامه وأن نصدق فيه قصوره وتناقضه وأن نوهم أنفسنا بأنه لا اختلاف فيه مع علمنا التام بمدى الاختلافات الفقهية التي ينوء بها كاهل المجتمعات الإسلامية المغلوب على أمرها في انتظار أن يتفق العلماء والفقهاء.



______________________
الهوامش
[1] قلتُ "معلومات" ولم أقل "علوم" لأن الكلام عن دوران الشمس والكواكب حول الأرض، ليس من العِلم في شيء.
[2] عبد الله بن مسعود يُقال له: ابن أم عبد



:: توقيعي ::: الدينُ أفيون الشعوب.

“What can be said at all can be said clearly; and whereof one cannot speak thereof one must be silent”
  رد مع اقتباس
قديم 09-07-2015, 02:56 PM ايفان كارامازف غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [4]
ايفان كارامازف
عضو جديد
 

ايفان كارامازف is on a distinguished road
افتراضي مرحبا اصدقائي

مرحيا انا جديد في المنتدى
ارجو ان افيد واستفيد من حضرتكم
هذه الايام انا مهتم بتاريخ الاسلام المبكر انا في منتصف كتاب "مقدمة في التاريخ الاخر" فصل عثمان والفتنة
ثار انتباهي كتاب الهاجاريون لباتريشيا كرون
هل من الممكن عناويون كتب تهتم بذات الموضوع ولكم الف تحية



  رد مع اقتباس
قديم 09-07-2015, 02:58 PM مُنْشقّ غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [5]
مُنْشقّ
عضو عامل
الصورة الرمزية مُنْشقّ
 

مُنْشقّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ايفان كارامازف مشاهدة المشاركة
مرحيا انا جديد في المنتدى
ارجو ان افيد واستفيد من حضرتكم
هذه الايام انا مهتم بتاريخ الاسلام المبكر انا في منتصف كتاب "مقدمة في التاريخ الاخر" فصل عثمان والفتنة
ثار انتباهي كتاب الهاجاريون لباتريشيا كرون
هل من الممكن عناويون كتب تهتم بذات الموضوع ولكم الف تحية
المرجو أن تفتح موضوعا في قسم الكتب و سآتيك بقائمة من عندي!

مشكورا



:: توقيعي ::: الدينُ أفيون الشعوب.

“What can be said at all can be said clearly; and whereof one cannot speak thereof one must be silent”
  رد مع اقتباس
قديم 09-07-2015, 03:07 PM ايفان كارامازف غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [6]
ايفان كارامازف
عضو جديد
 

ايفان كارامازف is on a distinguished road
افتراضي

لك الف شكر صديقي ماذا عن مقدمة في التاريخ الاخر
من ابرز فرضياته غرابة انه اعتبر الامويويين مسيحيين
ماذا نعرف عن هذا الموضوع



  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
المز, الديني, دينية, والتأويل


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
اسلوب عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
رسومات دينية ساخرة ᒍᗩᗰᕮᔕ ᗷ〇ᑎᗞ ساحة النقد الساخر ☺ 36 09-17-2023 06:28 AM
نكت دينية Lucifer ساحة النقد الساخر ☺ 99 10-14-2022 03:36 PM
مارأيكم في زواج لا دينية من مسلم؟ اسيرة عالمي ساحة الاعضاء الجدد Ω 33 12-31-2016 06:43 AM
نكت دينية... Skeptic ساحة النقد الساخر ☺ 20 09-03-2014 02:02 AM
النقد الدينى الدينى بين التهافت والإزدواجية والتبجح . ترنيمه مقالات من مُختلف الُغات ☈ 0 06-10-2014 10:39 AM