شبكة الإلحاد العربيُ  

العودة   شبكة الإلحاد العربيُ > ملتقيات النقاش العلميّ و المواضيع السياسيّة > ســاحـــة السـيـاســة ▩

إضافة رد
 
أدوات الموضوع اسلوب عرض الموضوع
قديم 04-08-2018, 09:37 AM قوم لوط غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [1]
قوم لوط
عضو جميل
 

قوم لوط is on a distinguished road
افتراضي مأساة الاحتلال العربي وتدمير الهوية المصرية الأصيلة

مأساة الاحتلال العربي وتدمير الهوية المصرية الأصيلة

أود في هذا الموضوع أن اعرض وجهة نظري حول تأثير الاحتلال العربي على مسألة الهوية، وأن استمع لرأي الأصدقاء هنا وما يتفقون معي فيه وما يعترضون عليه.

اعتذر اذا غلبت الهوية المصرية فقرات هذا الموضوع، فبالرغم من انتمائي لبلدتي العريقة - سدوم، أرض الفاحشة والأم الكبرى للمثليين، إلا أن أجدادي هم في الحقيقة مصريون، والأصل انني اضطررت في ايام طفولتي البريئة للهرب من ممفيس (منف) إلى دائرة سدوم وعمورة وطلب اللجوؤ هناك بسبب تعارض الاحتلال العربي ورغباتي الجنسية الأبيحة كطفل مثلي يتوعده إله البربر بالعقاب.

بالرغم من ذلك، فإنني أظن أنه من الممكن بسلاسة تامة تطبيق الأفكار السياسية والفلسفية المطروحة هنا على بلاد الشرق الأوسط الأخرى، ولا سيما سوريا.

إن مسألة الهوية هي مسالة معقدة، وكثيرا ما يتساءل المرء ما هي الهوية؟ ولماذا نحتاجها؟ لن أخوض هنا في فلسفة هذا الأمر لعجزي عن الالمام به، ولكن كل ما استطيع ان اقوله ان تجربة سفري إلى سدوم قد أثارت لدي احساس الهوية كمصري الأصل والطبع، وكم أشعر بالأسى لانني لن استطيع الاحتفال بعيد شوم إينيسيم (شم النسيم) مع المصريين هذا العام.

لقد تنبأت بهذه المشكلة من قبل أن أعزم السفر؛ فأنا لدي تجربة سابقة بالسفر إلى الفسطاط (المدينة التي أنشأها العرب البدو البربر الهمج في مصر وجعلوها عاصمتهم) داخل مصر، وهناك أصبحت أسخر من "خيمتهم" تلك وعاداتهم وتقاليدهم المنافية لعادات وتقاليد العاصمة الهلنستية في مصر (حيث نشأت)، بل وميولهم الجنسية الشاذة. ويعتقد كهنة آمون أن ذلك نابعا من احساس الهوية، الناتج عن احساس الاختلاف لدي عندما كنت في الفسطاط. ولعل أهم الاختلافات هي أن هؤلاء البربر الصحراويين يسمون المستيكة "لبانة"!



"الخيمة"

تعرضت مصر للاحتلال على مدار تاريخها الطويل، حتى في أيام المصريين الأصليين (يطلق عليهم اليهود والسراسنة اسم "الفراعنة") تعرضت مصر للكثير من الغزوات: الليبيين وشعوب البحر المتوسط والهكسوس والفرس وغيرهم. وفي كل غزوة، كان يحاول المحتل أن يطمس الثقافة المصرية في محاولة لإفقار الشعب المصري وتجريده من ثقافته، فثروة الشعوب هي الثقافة، فهي الكنز المعرفي الذي يشكل الوعي والنضج ومن ثم الرقي الإنساني وطغيانه على العبودية والاستعمار.

حاول الفرس احتلال مصر أكثر من مرة، لكن مصر تمكنت من الصمود والحفاظ على هويتها ولغتها ومعابدها و"الكتابة المقدسة" وطقوسها وفنون التحنيط التي انفردت بها مصر. بعد ذلك نجح الاسكندر المقدوني في طرد الفرس من مصر وأصبحت مصر جزءا من دولة الاسكندر. الفارق بين الاسكندر والفرس هو ان الاسكندر احترم الديانة المصرية وتقاليد المصريين، وزار المعابد المصرية واعتبر نفسه ابنا لآمون، واعتبر أن آمون لدى المصريين هو نفسه الإله زيوس.

بعدما توفي الاسكندر، تفككت الامبراطورية واصبحت مصر من نصيب بطلميوس وعائلته، والذين اتخذوا من الاسكندرية عاصمة لحكمهم. وبالرغم من الظلم والطبقية التي عانى منها المصريون في عصر الحكم البطلمي، إلا أن البطالمة لم يضطهدوا الثقافة المصرية ولم يمارسوا "عمليات الطمس الممنهج للهوية" التي قام بها من خلفوهم. استمر المصريون في التحدث بلغة المصريين وعبادة آلهة المصريين وممارسة طقوسهم الاجتماعية والدينية.

إن النقش الخاص بالملكة كليوباترا وإبنها من يوليوس قيصر - قيصرون على جدران معبد دندرة هو خير دليل على أن الثقافة المصرية ظلت محافظة بشكل كبير (وإن لم يكن كاملا) على أصوليتها خلال عصر الدولة البطلمية، ولهذا فإنني لم أُسَّمِ العصر البطلمي احتلالا ولكن يمكنني القول هنا بإنها مجرد أسرة تذيل عصر الاسرات المصري (الأسرة الثالثة والثلاثون أوالأخيرة).



نقش الملكة كليوباترا وابنها قيصرون على جدار معبد دندرة

لقد بدأت الكارثة بوقوع مصر في قبضة أوكتافيوس. بدأ الاضطهاد الممنهج ضد المصريين وتجريدهم من هويتهم وثقافتهم، وفرض لغة المستعمر عليهم، واستبداد ثرواتهم. يعتقد المؤرخون ان دخول المصريين في الديانة المسيحية هو شكل من اشكال الرفض والثورة على الاستعمار. يدعي المسيحيون ان المسيحية دخلت مصر عن طريق "القديس مرقس" (صاحب انجيل مرقس - ماركوس)، وهو ما يقومون بتدريسه في المدارس المصرية على إنه حقيقة تاريخية.

الملفت للنظر هنا أن الديانة المسيحية اصطبغت بصبغة مصرية خالصة (بدلا من الأصل العبراني)، فخرج لنا المزيج الرائع الذي يطلق عليه البعض "الثقافة القبطية". فالمصريون لم يتحولوا إلى اللغة الأغريقية أو اللغة العبرية أو الآرامية، بل قاموا بصبغ الديانة المسيحية بصبغة اللغة المصرية، لتخرج لنا هوية جديدة منبثقة من الهوية المصرية، هدفها الدعوة إلى التوحيد، وعبارة الرب يسوع الواحد المتجسد في ثلاثة أقانيم.

وهنا نحمد الطبيعة أن الديانة المسيحية هي التي دخلت قلب المصريين، وليس الأديان اليهودية السابقة، ذلك مرده أن العهد الجديد أكثر سماحة، أكثر بكثير من قرينه القديم. العهد القديم ما هو الا هرطقات يهودية ليس لها هدف سوى خلق هوية زائفة لقوم ليس لهم أي تاريخ أو مجد، ولا يضيف للتراث الإنساني سوى السخرية والاستهزاء من كل الأقوام المحيطة: عمون (الأردن الجميلة)، آرام دمشق (سوريا الحرة)، فلستة (فلسطين الأبية)، وأم الدنيا.

غير أن العهد الجديد هو رسالة عالمية موجهة إلى كافة الناس، باعتبار المسيح هو مخلص البشر وضحية خطايا العالم. أما العهد القديم فهو مجموعة من الهرطقات التي تتحدث عن شخصيات أسطورية لمجموعة قومية معينة عاشت بالقرب من الفينيقيين والفلستيين والسريان.

شكلت الهوية المصرية الجديدة الصاعدة تهديدا لحكم الرومان، فاتبعوا كل السبل في اخمادها وإبطالها. لقد عانى المصريون المسيحيون اضطهادا لم يشهد له المصريون من قبل في تاريخهم، وسمي عصر دقلديانوس باسم "عصر الشهداء"، وقامت الكنيسة فيما بعد بتصفير التقويم المصري السنوي ليبدأ مع حكم دقلديانوس، تخليدا للشهداء (أو يمكن محاباة للامبراطور الظالم، كما يحدث في مصر الان؟)



عمود السواري، رمز المازوخية المصرية الأبدية

انتهى هذا الصراع بانتصار المسيحية على الاضطهاد الروماني، وتحولت الامبراطورية البيزنطية رسميا إلى الديانة المسيحية، وتم عمل معيار قياسي للديانة وتحديد الاناجيل القانونية وتقييد استخدام غيرها، وأصبحت الاسكندرية مركزا لنشر الديانة المسيحية في العالم.

والآن بعد استعراض هذا الملخص الوجيز جدا للحكم الروماني والبيزنطي لمصر، علينا أن نذكر التحولات التي جرت على الثقافة المصرية أثناء الحكم الروماني. فالثقافة المصرية دخلت الدولة البطلمية "مصرية" وخرجت "مصرية"، إلا أنها دخلت الدولة الرومانية "مصرية" وخرجت منها "قبطية". يعمد المصريون دائما استخدام كلمة "قبطية" للاشارة الى تلك الثقافة المصرية التي سادت في مصر البيزنطية. من الثوابت التي يقوم المصريون بتدريسها لأطفالهم في المدارس هي أن "كلمة قبطي تعني مصري".
  • تخلى المصريون عما سماه هيرودوت "الكتابة المقدسة" (أي الهيروغليفية) وحتى الديموطيقية ("الكتابة الشعبية") قل استخدامها لحد الاندثار
  • تمكنت الامبراطورية الرومية من تدمير اعتزاز المصري بثقافته وهويته، فتوقف بناء المعابد، وانتشر الجهل والفقر، واصبح المصريون هم الطبقى الأدنى والأحقر في أرضهم المحتلة - كعادة الاحتلال دائما
  • مع انتشار المسيحية والتمرد على الدولة الرومية، اضطر المصريون إلى تطوير خط جديد يساعد على تدوين الأفكار والتعاليم المسيحية بلغتهم، وهنا جاء الخط القبطي - وهو المرحلة الأخيرة من الكتابة المصرية
  • تطورت اللغة المصرية لتدخل في أحدث وأخر طورها، وهي اللغة القبطية.



لوحات الفيوم تشهد بأصالة هوية المصري القبطي. مصريو اليوم هم أحفاد هؤلاء جينيا وثقافيا والعرب مجرد أجانب.

هناك فريق من المصريين المعاصريين يرفض استخدام كلمة قبطي ويحاول استبدالها بكلمة مصري، وذلك لأن كلمة "قبطي" قد اقترنت بالحقبة المسيحية والثقافة الناتجة عن تدين المصريين بالمسيحية، ولكن الحقيقة هي أن معظم سمات تلك الثقافة الجديدة هي موروثة عن اجدادنا المصريين. فالتقويم القبطي الذي نعرفه اليوم هو في الأصل تقويم مصري أصيل. تلك الشهور التي نرددها بين الحين والآخر "توت"، "بابه"، "هاتور"، "كيهك"، إلخ... كلها اسماء منبثقة من اللغة المصرية.

بالرغم من أن اللغة القبطية تكتب برموز معظها يونانية، إلا أن اللغة ومفرداتها ونحوها وقواعدها هي مصرية الأصل والطبع. اللغة القبطية مجرد مرحلة متطورة من اللغة المصرية، ولذلك يذهب هذا الفريق إلى تسميتها "اللغة المصرية" بدلا من "اللغة القبطية".

ولي هنا مأخذا هاما ضد هذا الاتجاه، فإذا كنا نرغب في استبدال كلمة قبطي بكلمة مصري للدلالة على الأصالة المصرية، فالأصح هو استخدام كلمة "كمت" المصرية ورفض كلمة مصر تماما. إن المصريين القدماء لم يستخدموا ابدا كلمة "مصر" هذه للإشارة إلى وطنهم. لقد كنا دائما نشير إلى أرض الوطن باسم "كمت" (أي الأرض السوداء) وهي الأرض الزراعية ذات التربة السوداء حول مجرى النيل، أما الأرض الصحراوية المحيطة كنا نطلق عليها اسم "دشرت" (أي الأرض الحمراء).

حتى نهر النيل لم نسمه نيلا ابدا، بل كان اسمه الرسمي "حابي". وكنا نحتفل بالفيضان، وكنا أساتذة جامعيين في الزراعة والحصاد. لقد برعنا في تذليل تلك الأرض الطيبة وتحويلها إلى جنة مثمرة تعود علينا بالخير سنويا، وقمنا بحفر الترع والقنوات واقامة السدود والبيوت والمعابد والاهرامات التي لازالت وستظل تبهر الجميع بعبقرية المصري القديم.

لقد سخر هيرودوت من المصريين وادعى أن المصريين لا يقومون بأي مجهود لزراعة كل تلك الأراضي الخصبة، بل يأتيهم الفيضان "على الجاهز" كل عام لينعموا بالخير الوفير الذي يأتي به النيل بدون جهد أو مشقة، ومن هنا قال مقولته الشهيرة بأن مصر هبة النيل، ونحن نرد عليه بأن مصر هبة النيل والمصريين.

والجدير بالذكر أن كلمة إيجيبتوس Egyptos التي استخدمها الإغريق للاشارة إلى "كمت" أصلها "قا بتاح" التي استخدمت في مصر المتأخرة للاشارة إلى منف على أنها دار روح بتاح "حت قا بتاح"، والتي تحرفت إلى حيكوبتاح مثلما تحرفت اسماء المدن المصرية إلى ما هي عليه الآن. ومنه أطلق الأغريق على مصر هيكوبتس، والتي تحولت إلى ايكوبتس، ثم إيغوبتس، وأخيرا إيجوبتس. وهذا هو فقط أحد النظريات حول الإثم.

ومن هنا يتضح لنا ان كلمة "قبط" و"قبطي" هي فقط أحد المسميات الإغريقية لمصر والمصريين، وأصلها مدينة قا بتاح (منف).

أما كلمة "مصر" هذه فلم تظهر في قاموس المصريين إلا بعد الاحتلال البربري لها. وهي كلمة سامية بامتياز وتعني "قطر" أو "بلد"، ومنها تبلورت الاسطورة الإسرائيلية حول أصل مصر، وأعادوه إلى "مصرايم بن حام بن نوح" المزعوم.

تسببت الديانة اليهودية تلك في ظهور نصوص مقدسة جديدة تداولت بين قبائل البربر الذين عاشوا في الصحراء جنوبي الهلال الخصيب... وتطورت لغة جديدة عن اللغة النبطية التي بدورها كانت سريانية الأصل. تطورت هوية الأنباط والبربر حول هذا النص الذي سمى نفسه بإنه "قرآنا عربيا" وهموا في السيطرة على الأمم المجاورة وإخضاعها لسد عقدة النقص لديهم.

بالرغم من أن كتاب يوحنا النقيوسي ضعيف تاريخيا ومتحيز جدا للأقباط والهوية القبطية، إلا أنه يعتبر دليلا هاما على نظرة الأقباط للعرب البربر القادمين من جهة الشرق. يصور لنا يوحنا النقيوسي جيش عمرو بن العاص بنفس صورة "داعش" اليوم. اعتقد أن تصوير "داعش" هو خير تشبيه للجيش العربي.

لقد كانت تلك الجيوش عبارة عن ميليشيات مسلحة ليس لها هدف سوى استعمار مصر واستنزاف خيراتها في مقابل "الحماية" و"الأمان"، فإذا رفض المصريون هذا الاستعمار سيقوم البرابرة بذبحهم ذبحا. أي أن مفهوم الحماية والأمان هنا هو مفهوم استعماري وليس كما يحاول المسلمون تصويره. بمعنى آخر، "ادفعوا ضريبة الرأس وعندها سنعطيكم الحماية والأمان ولن نذبحكم".

يصور لنا يوحنا النقيوسي كيف كان صدى انباء وصول العرب إلى أرض مصر على المصريين بالإسكندرية، فقد كانوا في قمة الرعب، وكان هذا العدو يشكل خطرا أكبر بكثير من الفرس، فالعرب لا يرحمون أحدا. كالعادة، اعتبر المسيحيون أن وصول تلك الميليشيات إلى مصر هو عقاب من الرب لأسباب متعددة.

ومثل داعش، تقيم تلك الميليشيات المسلحة في مناطق نائية في الصحراء وتتخذها كقواعد عسكرية تقوم منها بالهجوم على المدن المجاورة وسلبها. كان موقع حصن بابليون مناسبا جدا لطبيعة الانسان العربي البربري الهمجي، فقام عمرو بن العاص بانشاء قاعدة عسكرية شمالي حصن بابليون مباشرة، وهي اليوم المنطقة الواقعة بين محطة مترو الملك الصالح ومحطة مترو مارجرجس.



الفسطاط ناحية شارع صلاح سالم قبل الإشارة

استسلمت الاسكندرية لعمرو بن العاص، وبدأ المصريون في دفع ضريبة الرأس لعمرو بدلا من بيزنطة. ولأن العرب البربر ليس لديهم أي خبرة في إدارة شؤون البلاد أو الأقاليم التي يحتلونها، فقد تركت الدواوين تدار من قبل المصريين بنفس النظام الذي كانت عليه أيام البيزنطيين. لم يتغير أي شىء سوى صاحب المزرعة.

لم يكن هدف العرب مثلا تغيير نظام الدولة أو تغيير لغة المصريين وديانتهم. الأمر بسيط للغاية، هدفهم فقط بث الرعب في نفوس المصريين وإذلالهم وإجبارهم على إخراج الضريبة لهم ودفع الجزية، وإلا فالعاقبة ستكون وخيمة.

تخيلوا مثلا لو وصلت داعش إلى مصر، سيكون هذا هو الحال بالظبط. ستستمر مدام عفاف في إدارة شؤون الطلبة، وستستمر البيروقراطية الحكومية ومنشآت وزارة الصحة والجامعات وما إلى ذلك على حالهم، ولكن ستنكسر نفس كل مصري وسينتشر الرعب في قلوب المدن المصرية من تلك الميليشيات المنتشرة في الصحراء، وسيضطر المصريون إلى تنظيم الضريبة فيما بينهم وإخراجها للميليشيات في أوقات محددة كل عام. وعندما تغضب الميليشيات تقوم باقتحام المدن وتسبي من تسبي وتحرق ما تحرق ليتعلم المصريون احترام اسيادهم. هكذا تكون داعش وهكذا بالضبط كان الاحتلال العربي.

يذهب المؤرخون دائما إلى القول بإنه بعد الاحتلال العربي مباشرة، اصبحت الفسطاط عاصمة مصر بدلا من الإسكندرية. أرى أنه من الأدق أن نقول أن الفسطاط كانت مجرد مركز عسكري للميليشيات الداعشية لفرض السيادة على المصريين وكسر عينهم ليس إلا. فهذه الفسطاط لم نسمع لها أي تأثير حيوي أو ثقافي في مصر والمنطقة المحيطة. لقد كانت بحق مجرد "خيمة" للدواعش يستظلون بجبل المقطم من ناحية وجبل يشكر من ناحية أخرى، فالمنطقة تذكرهم بالصحراء الذين هم منها، ولديهم هنا حامية جاهزة بدون تعب وهي حصن بابليون.

يقال أن عبد الله بن عبد الملك بن مروان هو أول من أمر بتعريب الدواوين، فتحولت الدواوين من القبطية إلى العربية. ولكم أن تتخيلوا كيف كان حال مصر وقتها... فمن يبالي؟ فهذا تطور طبيعي تدريجي للسيطرة البربرية على مصر... ومع الوقت ستصبح مصر عربية خالصة. واعتقد هنا ان السبب ببساطة هو "رعب" المصريين من الدواعش.

زالت الدولة الأموية واحتل العباسيون مصر، وازدهرت بغداد واصبحت مركزا ثقافيا هاما، أما مصر.. فقد تدمرت جسديا ومعنويا. لقد ضاع احساس المصري بهويته، وضاع احساس الفخر الذي اسهب هيرودوت في وصفه. لقد كان يظن المصريون انهم اسياد العالم وان حضارتهم هي أعرق الحضارات. كانوا يشيدون قصورا عملاقة مثل "قصر التيه" ومعابد مبهرة مثل "معبد الكرنك". كانوا يشهدون بعظمة أسلافهم وأجدادهم ويشيرون إلى انجازاتهم مثل "الأهرامات". فعندما زار هيرودوت مصر، حكى له الكهنة قصة الاهرامات وحدثوه عن ملوك قدامى اسماءهم "خوفو" و"خفرع" و"مانكاورع"!



ليس هناك سبب لسقوط الحضارة المصرية العريقة سوى هؤلاء

ظل هذا الوضع المزدري حتى قامت الدولة الفاطمية واتخذت من "القاهرة" عاصمة لها. والقاهرة هي امتداد للفسطاط والعسكر، والمسجد الازهر هو جامعة الفاطميين لنشر المذهب الشيعي. يعتقد الكثيرون أن فترة الفاطميين هي الفترة التي تبلورت فيها الثقافة الشعبية المصرية بشكلها العربي الجديد. يقول بعض المؤرخين ان المذهب الشيعي لم ينتشر بين المصريين وظل المصريين محافظين على مذهبهم السني وظل المسيحيون المصريون محافظين على ديانتهم المسيحية، بالرغم من تسامح وتعاطف الشيعة معهم. ولي هنا سؤال مهم:

كيف لا ينتشر المذهب الشيعي بين المصريين بالرغم من تسامح الفاطميين، وفي المقابل تنتشر السنة بين المصريين بالرغم من همجية عمرو بن العاص؟

يمكننا القبول بالطرح القائل بأن عدد لا بأس به من المصريين قد اعتنقوا الاسلام تفاديا لبطش العرب والجزية، ولكن هذا لا يفسر أبدا تحول الهوية المصرية والثقافة المصرية فجأة إلى النمط العربي.

اعتقد أن هناك الكثير من التدليس حول حقيقة تأثير الفاطميين على المصريين وذلك للتبرؤ من المذهب الشيعي في عصر الأيوبيين الذين خلفوهم. لقد أثر الفاطميين على معتقدات المصريين تأثيرا كبيرا، بنفس درجة التأثير على الثقافة المصرية.

العصر الفاطمي هو الطور الحقيقي لتحول الثقافة المصرية أخيرا إلى هوية عربية خالصة. والدليل على ذلك هو أن الاحتفالات المصرية والتقاليد القبطية رجعت تظهر على الساحة بقوة مرة أخرى، ولكن هذه المرة بتأثير من الفاطميين الحاكمين للدولة، فالفضل يرجع إليهم في إطلاق حرية المصريين مرة أخرى واستعادة المصريين لثقافتهم وهويتهم. لقد برز دور الكنيسة المصرية (الحامي الوحيد للهوية المصرية بعد الاحتلال العربي) في عهد الدولة الفاطمية، وكانت احتفالات شم النسيم وراس السنة وغيرها عبارة عن مهرجانات شعبية كبيرة، مثلما كانت دائما قبل العرب وقبل عصر الشهداء.

وفي المقابل كان هناك الاحتفالات الاسلامية بشهر رمضان وعاشوراء وغيرهم من ثقافة العلويين. هذه المنافسة كانت ضرورية ولازمة لتستعيد الكنيسة دورها الريادي في الثقافة المصرية، ولتتصاعد في المقابل الهوية العربية الاسلامية المتمثلة في الفاطميين والمصريين المتأسلمين الجدد. لازال تأثير الدولة الفاطمية على الثقافة المصرية واضحا بشدة حتى اليوم.

أما دولة المماليك والخلافة العثمانية التي تلتها هما السبب الحقيقي في دمار تلك الثقافة مرة أخرى ونحلها نحلا. مع القرن السادس عشر اختفت اللغة القبطية تماما بين المصريين واصبحت مجرد لغة دينية لا تخرج عن الكنيسة. انتشرت الأوبئة والأمراض في عهد الاحتلال التركي لمصر. انتشر الجهل والفقر والايمان بالدجل والعفاريت والخرافات. نسى المصريون أصلهم العريق، واصبح كل همهم لقمة العيش. نسى المصريون كيف أصبحوا مصريين، وكيف استعبدهم العرب الهمج وجردوهم من كرامتهم وعزتهم، وكيف بعد ذلك تحولوا إلى الإسلام، وكيف كانت لغتهم وكيف وكيف...

أصبحت الأديرة والمعابد التي نراها في الجيزة ومنف وطيبة وفيلة وحتى الاسكندرية نفسها، مجرد آثار لا نعرف عنها شئ سوى انها آثار لقوم عاشوا في هذا المكان مسبقا. حتى اسماء المدن نسينا معناها، فلا نعرف لماذا سميت دمياط بهذا الاسم، وماذا يعني دمنهور، أو طنطا، او أشمون، أو بلبيس. كل ما نعرفه هو الاساطير الاسلامية التي ورثناها من المحتل العربي والتي يجب علينا الالتزام بها وإلا فمصيرنا السعير.



لاحظ ارتفاع الرمال

مثلت الحملة الفرنسية صفعة على وجه المصريين ليفيقوا من غسيل المخ الذي فعله العرب بهم، لتبدأ صفحة جديدة في تاريخ مصر الحديث على يد محمد علي. ومع فك شمبليون لرموز حجر رشيد تأسس علم المصريات، العلم الذي يعتبر بمثابة الصحوة من الغيبوبة التي أصابنا بها المحتل العربي على مدى قرون.

بعلم المصريات بدأنا نسترجع جزء من ذاكرتنا المفقودة. بدأنا نعرف تاريخنا وعظمتنا التي دمرها البربر وثقافتهم الرجعية. وبعد الحرب العالمية الأولى وثورة سعد زغلول ظهر على الساحة الرأي الداعي إلى التبرؤ من الدولة العثمانية ومن القومية العربية، واتخاذ القومية المصرية فقط دون غيرها كأساس للهوية المصرية، ولكن بالطبع هذا لا يتفق مع أهواء الملك الحاكم ذي الأصل التركي، ولا مع المحتل البريطاني.

ومع رحيل المحتل البريطاني، بقيت مصر ضحية لثلاثة تيارات، كل منها يحاول السيطرة على الثقافة المصرية وإذلالها وقولبتها في إطار يتفق مع أيديولوجياتهم الرجعية:
  1. التيار القومي العربي الذي قاده جمال عبد الناصر، وينظر لمصر على انها دار العروبة
  2. التيار القومي الاسلامي الذي قاده الإخوان المسلمون واتباعهم
  3. التيار القومي العسكري - وهو أبشعهم، وينظر لمصر على انها معسكر.

كان الفوز من نصيب القومية العسكرية، واصبحت الهوية العسكرية هي المسيطرة على هوية وثقافة المصريين. ومن مصلحة تلك الهوية البائسة طمس كل ما هو متعلق بآثار وهوية المصريين، فتدهور الوضع الثقافي بمصر، ودخلت مصر أخيرا "العصر السبكي".

تمكن العسكر من تجريد مصر من كل ما له علاقه بهويتها التي حاول طه حسين وأمثاله الحفاظ عنها واحياءها. اخترع العسكر دينا جديدا متفقا مع الاديان السائدة في مصر حاليا وسموه "الاسلام الوسطي الجميل"، ويقوم على تكفير كل من خالف العسكر.

قام أولئك العسكر باختراع علم جديد عسكري للمعسكر وهو علم غريب لا يعبر بأي شكل عن ثقافة وتاريخ وتراث المصريين، وهو عبارة عن ثلاثة ألوان احمر وابيض واسود لا يعبروا عن شئ سوى الحروب والخراب والدماء التي خلفها الحكم العسكري وخلافاته مع المستعمر الاسرائيلي والبريطاني والفرنسي، وبنصف العلم نجد نسر يطلقون عليه اسم "نسر صلاح الدين" بدلا من ان نجد مثلا هرم خوفو أو أبا الهول أو الإله ايزيس أو أوزوريس أو أي رموز من الرموز المصرية الأصيلة التي ورثناها عن اجدادنا منذ آلاف السنين.



مشهد المحاكمة العبقري الذي يعبر عن الخيال الخصب للفنان المصري وروعة الرمزية المصرية في العصر ما قبل السبكي

إنه ليؤسفني جدا ما آلت اليه الأوضاع في مصر، ولا سيما أن الأوضاع تصبح كل يومٍ أكثر سوءا. تدهور الفن هو مقياس حقيقي لحالة التدهور الثقافي الذي آلت إليه مصر تحت صراع اللواءات الثلاثة التي عرضناها بالأعلى، وبالتالي التدهور العلمي والمعرفي، والفقر، والجهل، وهو الحال منذ الاحتلال الروماني فالعربي لمصر.



:: توقيعي ::: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ
  رد مع اقتباس
قديم 04-08-2018, 11:03 AM Hamdan غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [2]
Hamdan
باحث ومشرف عام
 

Hamdan will become famous soon enoughHamdan will become famous soon enough
افتراضي

بصراحة موضوع مهم ...كثيرا ما كانت تراودني بعض الأسئلة من قبيل لماذا لم تصمد مصر امام الغزو الثقافي العربي كما صمدت إيران والهند مثلا هناك عوامل تاريخية بالتأكيد لكن العامل الأهم هو الثقافة في الهند مثلا للهنود فلسفة قوية وعريقة والديانة الهندوسية هي ديانة فلسفية في إيران الديانة الزرادشتية شبيهة بشكل كبير بالمذاهب الباطنية التي تنتشر فيها واللغة لم تتعرب كما حدث في مصر ...عامل الثقافة هو السبب الرئيسي من وجهة نظري الديانة المصرية كانت ديانة ساذجة سطحية لذا كانت الثقافة المصرية ضعيفة ومهلهلة ..وهناك عوامل اخرى طبعا

تحياتي



  رد مع اقتباس
قديم 04-08-2018, 01:23 PM قوم لوط غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [3]
قوم لوط
عضو جميل
 

قوم لوط is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Hamdan مشاهدة المشاركة
الديانة المصرية كانت ديانة ساذجة سطحية لذا كانت الثقافة المصرية ضعيفة ومهلهلة...
تحياتي
مرحبا صديقي Hamdan

اتفق معك تماما في أنه لو كانت الديانة الخاصة بشعب ما في هذا الوقت ضعيفة، فإن هذا بدوره ينعكس على ثقافة المجتمع ومدى تأثره بالأجانب

وإذا قمنا بتطبيق هذه الحجة على وضع مصر وقت الاحتلال العربي، فإن الديانة السائدة في مصر وقتها كانت المسيحية وربما كان هذا سببا في ضعف وهلهلة الثقافة المصرية

أما الأديان المصرية القديمة فلم تكن مهلهلة على الإطلاق. وأنا لا أقول هذا دفاعا عن أجدادا، ولكن هذا مجرد ادعاء من باب الموضوعية. فالمصريين كان لديهم مجموعة كبيرة جدا من الأدبيات الدينية التي شكلت عمق الوعي الديني لدى الإنسان المصري، ومنها مثلا نصوص الأهرام والنصوص الجنائزية وكتاب الموتى واسطورة إيزيس وأوزوريس وغيرها، وتلك التشكيلة (وحتى إذا كانت لا تضاهي قوة وروحانية المعتقد الهندي) فإنه من غير العادل ان نتهمها بأنها كانت إحدى الأسباب لسقوط مصر

هذا مجرد رأي وأحاول أن أكون حياديا وقد أكون مخطئا. بالتأكيد المعتقدات الهندية قوية جدا، ولكن المعتقدات المصرية لم تكن بالضعف اللازم لانهيارها.



:: توقيعي ::: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ
  رد مع اقتباس
قديم 04-09-2018, 12:24 PM Hamdan غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [4]
Hamdan
باحث ومشرف عام
 

Hamdan will become famous soon enoughHamdan will become famous soon enough
افتراضي

كل دين فيه نصوص ..لكن مقصدي أن بعض الأديان لديها أساس نظري متين كالهندوسية مثلا أو الزرادشتية التي استطاعت أن تحتوي الدين الإسلامي ..الديانة المصرية وكذلك اليونانية هي ديانات وثنية أو شركية وبحسب فكرة اوجست كونت في تطور التاريخ الأديان التوحيدية تطور عن هذه ..



  رد مع اقتباس
قديم 04-04-2020, 10:25 PM Enkido غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [5]
Enkido
عضو برونزي
الصورة الرمزية Enkido
 

Enkido is on a distinguished road
افتراضي

موظوع اكثر من رائع
باركك الزب 🥰



  رد مع اقتباس
قديم 04-05-2020, 02:11 AM سوط عذاب غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [6]
سوط عذاب
عضو برونزي
 

سوط عذاب is on a distinguished road
افتراضي

العرب كانوا ضيوف مرحب بهم في مصر القديمة وهم أخوال العرب ..



  رد مع اقتباس
قديم 04-05-2020, 11:24 AM المسعودي غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [7]
المسعودي
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية المسعودي
 

المسعودي is just really niceالمسعودي is just really niceالمسعودي is just really niceالمسعودي is just really nice
افتراضي تحياتي

لقد عرضت وجهة نظري حول الموضوع في المقالين التاليين:
الثلاثي المقدس: الإسلام والعروبة ودولة حكم الأقلية [1]
الثلاثي المقدس: الإسلام والعروبة ودولة حكم الأقلية [2]
ومن المؤمل أن أن أنهي الجزء الثالث قريباً.



  رد مع اقتباس
قديم 02-23-2021, 09:12 PM المسعودي غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [8]
المسعودي
باحث ومشرف عام
الصورة الرمزية المسعودي
 

المسعودي is just really niceالمسعودي is just really niceالمسعودي is just really niceالمسعودي is just really nice
افتراضي

1.
لقد دمر الإسلام الهوية الثقافية المتطورة لجميع شعوب منطقة الشرق الأوسط. وبدلاً من حضارة الشعوبة المتحضرة صنع تقاليد عربية متخلفة وكيانات دينية تستند الى الطغيان الشامل.
2.
ولكن هذا كان هو الطريق الوحيد الممكن لوجود الإسلام:
إذ لا وجود للإسلام في إطار حياة السلم وحق الاختيار. فهو دين لا يحمل عقيدة التبشير، بل عقيدة الفرض. ولهذا فإن الاسلام لا يستند إلى الإيمان وإنما إلى الخضوع. وليس من الصدفة أن يقول محمد للجزء الأعظم من المسلمين: قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان إلى قلوبكم!



  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
همسات, الأصيلة, المصرية, الهوية, الاحتلال, الغربي, وتدمير


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
اسلوب عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
هل انتصر السادات حقا فى اكتوبر 1973 ؟ ام انه زاد من وقع الهزيمة ؟ ديانا أحمد ساحـة الاعضاء الـعامة ☄ 10 10-08-2018 12:52 AM
ما راى عوام المسلمين فى الاحتلال الاردوغانى التركى لشمال سوريا ؟ ديانا أحمد ســاحـــة السـيـاســة ▩ 5 03-25-2018 11:42 PM
و إنك لنصاب كبير ابن دجلة الخير العقيدة الاسلامية ☪ 2 04-13-2016 03:52 PM
مأساة الحجاج في السعودية امير الملحدين العقيدة الاسلامية ☪ 8 09-26-2015 01:14 AM
الاحتلال الإسرائيليّ المتوحّش يقتل طفلة في الخامسة. مُنْشقّ ســاحـــة السـيـاســة ▩ 31 08-12-2015 02:11 PM