شبكة الإلحاد العربيُ  

العودة   شبكة الإلحاد العربيُ > ملتقيات في نقد الإيمان و الأديان > العقيدة الاسلامية ☪

إضافة رد
 
أدوات الموضوع اسلوب عرض الموضوع
قديم 05-31-2020, 10:59 AM سامي عوض الذيب غير متواجد حالياً   رقم الموضوع : [1]
سامي عوض الذيب
الأنْبياءّ
الصورة الرمزية سامي عوض الذيب
 

سامي عوض الذيب will become famous soon enough
افتراضي الأشرار الأربعة: ورابعهم محمد الطالبي

ذكرت في مقال سابق
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=677132
أن الأستاذ الدكتور محمد المزوغي اصدر كتابا عنونه: في ضلال الأديان
يمكنكم الحصول عليه من الدار الليبرالية. للحصول عليه يمكن الإتصال بها
+49 176 21419894
[email protected]
وللقراء خارج سوريا لاسيما في الدول الأوروبية أصبح بالإمكان طلب كتب الليبرالية عن طريق موقع صفحات ناشرون السويد
https://www.safahat-publishers.com/p.../dar-lebralye/

وقد كرس المزوغي الجزء الأكبر من هذا الكتاب لسحق فكر اربعة من أشرار مجتمعنا:
يوسف زيدان
يوسف الصدّيق
محمد عابد الجابري
ومحمد الطالبي
.
بعد ان نشرت في مقالي المذكور اعلاه مقدمة كتاب المزوغي في ضلال الأديان
وعرضت ما ذكره مؤلفه عن الشرير الأول يوسف زيدان، والشرير الثاني يوسف الصدّيق، والشرير الثالث محمد عابد الجابري
اعود اليكم لأنقل ما كتبه الأستاذ المزوغي عن الشرير الرابع محمد الطالبي

الأشرار الأربعة: ورابعهم محمد الطالبي (تحت عنوان: محمد الطالبي المسيحية دعارة مُحرَّمَة والإسلام بغاء حلال)
------------------------------------------------------------
1. سلميّة! سلميّة!
------------
«الأستاذ محمد الطالبي، جامعي ومؤرخ ومفكر تونسي »، متواضع جدا إلى درجة أنه «يَرفض أن تُطلَق عليه صفة "عالم"، ذلك لاعتقاده أنها صفة تؤدي إلى عدم التواضع ». هكذا يقدّمه، حسين بن عثمان، أحد قرّائه المخلصين، والذي يذكره التونسيون بقولته الشهيرة، في التلفزة على المباشر: " بن علي مات، بن علي مات"، يقصد الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، والذي لم يَمت، ولكن خَطفوه ورَحَّلوه إلى السعودية، لكي يأتوا بالإسلاميين للحكم ويُذيقوا الشعب التونسي أشدّ العذاب.
إنّ هذا العالِم، يواصل بن عثمان، له اسهامات عديدة في شتى المجالات «مقالات ودراسات وكتب، أغلبها مجهول عند القارئ العربي غير المختصّ، لأن صاحبها كتبها في لغة غير عربية ونشرت في دوريّات ومراكز مختصة. ومن كتبه نذكر أطروحته عن تاريخ إفريقية عندما كانت امارة أغلبية، وكتابه ابن خلدون والتاريخ، وكتابه الإسلام والحوار، وكتابه تأملات في القرآن بالاشتراك مع موريس بوكاي، وكتابه الاصرار على الاحترام بالاشتراك مع أوليفي كليمان ». الأستاذ الطالبي هو من الجيل المؤسس للتعليم الحديث في تونس، والذي اضطلع بمهمّة «تكوين الجامعة التونسية وارساء تقاليد عصرية في البحث العلمي».
الطالبي درسَ في تونس أيام الحماية الفرنسية، ثم انتقل إلى باريس لمواصلة تعليمه، وفي ثنايا حوار نشره في كتاب "عيال الله"، روى نُكتة عن حياته في باريس. قال: «كنتُ سكنتُ في بيت سيّدة فرنسية طيّبة جدا، مؤمنة بعقيدتها المسيحية وتعلّمتُ منها الكثير. فقد كانت تريد مني أن أنقلب إلى دين الحق، ودين الحق عندها لا يوجد في غير المسيحية [...] كانت تطلب منّي من حين لآخر مرافقتها إلى الكنيسة، ولبّيتُ طلبها عدة مرات، وحضرتُ طقوس المسيحيين الدينية أيام الآحاد، وقد كانت تجربة ثريّة بالنسبة إليّ. اطّلعتُ خلالها وعن قرب على عمق الحياة المسيحية في قلوب المعتقدين حقا في صفاء وفي محبة لخدمة الإنسان من خلال تعاليم السيد المسيح وتعاليم الإنجيل ».
لكن، رغم مناشدات هذه السيدة المسيحية "الطّيّبة جدا" ودعواتها المتكررة لكي يَنقلب هو إلى الدين الحقّ (المسيحية) فإن الطالبي لم ينقلب ولم يبدّل دينه اطلاقا، بل قلبَ الآية وطلبَ من المسيحيّين أن يتخلّوا عن دينهم ويَنقلبوا إلى الدين الأحَقّ (الإسلام). والسبب في ذلك هو اقتناعه بأن الأديان السابقة تآكلتْ تاريخيّا وفَقدت مشروعيّتها مع مجيء الإسلام. فعلا، خطاب القرآن يقول الطالبي «مُوجّه للإنسان عموما، بينما كان الخطاب في التوراة، وكذلك فيما بَلغَنا من روايات الأناجيل، موجّه إلى بني اسرائيل. كَلّفَ الله بني اسرائيل بنعمةٍ منه فضّلهم بها (على العالمين)، بمهمّة اضطلعوا بها زمنا، في وسط وثني، ثم مثّلت رسالة محمد خاتم النبيّين تحوّلا جذريا في الخطاب الإلهي [...] إن الخطاب القرآني موجّه دائما إما للإنسان كفرد مسؤول عن نفسه، ولا يزر وزره غيره .. وأما للناس عموما (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا) ».
وفقط لأجل هذه الخاصية الذاتية، فإن القرآن أصبح في نظر الطالبي «يُمثل تحوّلا حاسما في حياة البشرية، ويَفتح عهدا جديدا، من مجموعات مغلقة دمويا (القبائل) أو ثقافيا (الشعوب)، إلى الانفتاح على وحدة الشعور بوحدة الانحدار "من ذكر وأنثى" أي من أسرة واحدة، يصفها الحديث "بعيال الله"». وأكثر من ذلك فإن القرآن «سَمَا، بصفةٍ غريبة، وغير منتظرة في المحيط الذي أُنزل فيه، إلى ما لم نحققه إلى اليوم: وحدة الإنسان ».
وقد جدّد دعوته لليهود والمسيحيين الالتحاق بالإسلام في كتابه الأخير المربك، "أمة الوسط"، حيث قال هناك إن الله في البداية اصطفى بني اسرائيل وحمّلهم رسالة تبليغ التوحيد، وجعل فيهم النبوة وفضّلهم على العالمين، وتواصلت «النبوة إلى عيسى بن مريم عليه السلام، آخر أنبياء بني اسرائيل ».
وبِنصّ القرآن والإنجيل فإن رسالة عيسى تقتصر فقط على الانذار «بأنّ الساعة وشيكة ـ وهذا ما نجده فعلا التأكيد عليه في كامل الأناجيل التي بلغتنا ـ فكوّنت أوّل منعرج في الدعوة الإبراهيمية ». ثم انتهت مُهمّة يسوع كما انتهت من قبله مهمة اليهود، وفُسخ الميثاق الذي أبرمه الله معهم. يسوع هيّأ إلى «تحوّل أعمق وأتمّ على يد "خاتم النبيّين"»، واليهود بعد أن انتهى ميثاقهم «خلَفَه آخر عُهِد به إلى أمّة لا تنحصر في شعب، وإنما تتسع إلى كامل البشر، على أساس الانتخاب لا بالعرق، وإنما بالبرّ والتقوى ».
ودعوة الطالبي تُواصل تاريخيا دعوة نبيّ الإسلام وتحاكيها، حيث أن دستور المدينة سجّل مضمون ولادة الأمة الجديدة، أمة محمد، «في دفتر التاريخ »، وخطاب آيات القرآن موجّه على الخصوص «لأهل الكتاب الذين أخذ الله أوّلا ميثاقهم، وفي الخطاب دعوة مُلحّة لهم كي يدخلوا في الميثاق الجديد وفي الأمة التي التفّت في المدينة حول "خاتم النبيّين"، وأخذت تبرز للوجود بصفة ملموسة ومُنظّمة كي تضطلع بهذا الميثاق، وتؤدي للناس جميعا آخر رسالة إلهية لهم، وتشهد على ذلك ». ومن ذاك الآن فصاعدا، كل الارث اليهودي والمسيحي «يَجد في الدعوة المحمّدية تَتويجه الختامي ».

2. مِن الدعوة بالّتي هي أحسن إلى إعلان الحرب
-------------------------------
لكن، رغم هذا الكلام الجميل فإن محاولات السيد الطالبي تمّ تجاهلها بالكامل، ولم يَنضمّ لدعوته لا اليهود ولا المسيحيون. أمام هذا الفشل الذريع فإن الطالبي غيّر من تكتيكه وحوّل الدعوة من سلمية إلى حربية. لم يَعتبر نفسه قد انهزم، لم يُلقِ بسِلاحه وإنما وَجّهه ضدّهم، وأخذ يُجرّح في المسيحية، وجَمَع معها اليهودية، على طريقة الإسلاميين المتعصبين. بدأ بالعهد القديم، وهو أسهل لقمة في أيدي الإسلاميين، دون أن يتفطّنوا إلى أنّ نصف القرآن أو أكثر، مستمَدّ منه، وأن هذه الحقيقة معلومة ليس فقط للمحدثين من العلماء الغربيين، بل أيضا للمخاطَبين من رجال عصره، بشهادة القرآن نفسه. لقد سمّوا تلك الحكايات "أساطير الأوّلين"، ادراكا منهم بأنها مُستمدّة من مصدر يهودي قديم، أعني من التلمود الذي هو خزّان الأساطير والخرافات الأكثر منافاة للعقل والحس السليم، ولكن كاتب القرآن أراد أن يُدخل ثقافة التوراة وأساطيرها عنوة في مجتمع عقلاني نبذَها من زمان.
الطالبي رأى من واجبه أن يُهاجم التوراة على الطريقة الكلاسيكية، أعني ترديد أنشودة التحريف: «يجب أن ننبّه .. أن التوراة بَلَغتْنَا محرّفة في الصياغة التي صاغها عليها مُحرّروها الذين تتالوا على تحريرها وتحريفها في أزمنة مختلفة ومتأخرة ». التوراة ليست محرّفة فقط، بل مملوءة خرافات «لا يَقبلها مَن رُزِق أدنى ذرّة من العقل». أن تكون التوراة زاخرة بالخرافات فهذا أمر بديهي، يكفي فتح أيّ صفحة حتى تتأكّد من هذه الحقيقة. لكن قد يردّ اليهودي: وخرافة النملة والهدهد؟ وخرافة الجنّ والعفاريت وكرسي ملكة سبأ الذي طار في الفضاء كالصاروخ؟ أنت تُعيِّرنا بخرافات كتابنا، وتَستقوى علينا بالعقل، لكن لو كنتَ تملك ذرّة عقل، كما تتّهمنا، لالتفتَّ إلى خرافات القرآن التي أنزلها الله في كتاب غير محرّف، كما تزعم. نحن نعلم من أين استمدّ كاتب القرآن تلك الأساطير ونملك المصادر الأصلية، المِشْنا والتلمود، ولو أردتَ الاطلاع عليها لوفّرناها لك. لكن يجب أن تعلم أنّ تلك الكتب لا نعتبرها مقدّسة ولا نضعها على قدم المساواة مع التوراة، وإنما اجتهادات وتفسيرات اختلط فيها الفلكلور بالخرافة، ولذلك فإن العديد من أحبار اليهود العليمين بالتراث، استبعدوها كتأويلات زائغة عن روح التوراة. ومع ذلك فقد أصبحت، بفضل القرآن، وبفضل أجيال من المؤمنين، أشياء مقدسة ووحيا إلهيا صادقا، وهكذا فإن القرآن هو الذي أنقذ خرافات اليهود وانتشلها من غياهب النسيان.
"كتابكم مُحرّف"، هذا هو ردّ الطالبي: كيف؟ ومتى؟ وأين؟ لا جواب، المهمّ أنه محرّف وكفى. تصوّروا أن هذا الكلام صادر عن مؤرّخ تخرّج على يديه مئات الأساتذة التونسيين والذين هم بدورهم الآن يدرّسون في الجامعات. بعد كتاب اليهود انتقل إلى إلههم وقال إنه شرير: «الذي يهمّنا نحن هو أن إله الآلهة، وربّ الأرباب، كما يصوّره الكتاب المقدس شرّير ». وهذا صحيح، إله اليهود هو أشرّ كائن في العالم، ولكن نحن هنا أمام مَن يرى القشّة في عين الآخر ولا يرى الخشبة في عينه. أليس إله القرآن هو أيضا شرّيرا؟ ومِن أين استمدّ القرآن شر الاله؟ كله من العهد القديم: مَن الذي قسّى قلب فرعون؟ إله التوراة وإله القرآن. من الذي يتباهى بأنه يُغوي عباده ويَشمت في زلاّتهم؟ إله العهد القديم وإله القرآن. من الذي فاق التوراة في حقده على البشرية بقوله: (لأملأن جهنّم من الجنة والناس أجمعين). لاحظوا كيف أنه من شدّة الحُنق، جمَعَ بين البعض والكل: "من الناس"، وبعدها "أجمعين". وقد أعادها في سورتي هود والسّجدة، بنفس العبارات، وبنفس اللهجة القاسية. أهذه بشارة سارّة ومريحة للبشرية؟ أمِن المعقول أن يتوعّد الله مخلوقاته الضعيفة بأنه سيملأ جهنّم ـ مكانٌ تعيس ومُرعب ـ من البشرية؟ إن الطالبي وجماعته من القرآنيين والإسلاميين عموما، مستعدّون أن يُبرّروا الكانيباليزم (أكل لحوم البشر)، لو أمَرَ به القرآن. لكن في الحقيقة، هذا الرجل وصَل إلى حالة من هذا القبيل، أعني إلى كانيباليزم مَعنوي، بقوله، بعد أن هدّد الله البشرية بقذفهم في جهنّم، إن الله يتصرّف «بعدلٍ ورحمةٍ وحكمة وتدبير ».
لكن الرجل تكرّم على الديانة اليهودية بوصفها «أكثر الأديان تسامحا مع الأديان الأخرى »، وهذا غير صحيح لأنه لو فتح سفر الملوك الأول، الإصحاح 18، لرأى أن يهوه لم يكن متسامحا مع ديانة الكنعانيين، حيث أن النبيّ إيليا، بأمْرٍ من يهوه، قام بذبح 850 كاهنٍ من كهّان الإله بعل، وأمره بِهَدم معابدهم وإحراقها فقط لأنه لا يحبّ أن يُعبد إله غيره.
بعد الإله يهوه مرّ إلى نزع الميزة التي يتباهى بها اليهود القدماء والمحدثون: التوحيد. اليهودية، يقول الطالبي، «ليست ديانة توحيدية (monothéiste)». إذن هي ديانة وثنية، ديانة شرك وتعدد الآلهة؟ كلا؛ اليهودية، اختَرعَ لها الطالبي صفة خاصة: «هي ديانة هناإلهية (hénothéiste) »، تدين بإله ليس إله كوني وإنما مخصوص لشعب واحد.
إن أسهل كتاب في العالم يمكن أن يُهاجَم ويُفتَكَ به فتْكا هو كتاب اليهود، لأنه فعلا يحتوي على كمية هائلة من الخرافات المُنفّرة للعقل والحس الإنساني السليم؛ في كل صفحة تقريبا نعثر على العنف والأسطورة والتقتيل والتشبيه؛ على إله غضوب مُنتقِم قتال، وعلى كل الشناعات التي لا يمكن تصوّرها. لكن قراءة بسيطة لتعاليم الإسلام، تُثبتُ، دون أدنى مجال للشك، أن هذا الإرث الخرافي الحربي العنيف مرّ بحذافيره إلى القرآن. فعلا، الله في القرآن يغضب، ينتقم، يستهزئ، يُخادع، يقتل هو شخصيا ويرمي السهام، يتحسّر، يفرح، يكره، وما إلى ذلك من الصفات الإنسانية القبيحة؛ أقول قبيحة لأنك إذا قرأت في كتاب ما هذه الجملة (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم)، يعني إله يُبرّؤ القاتلين الفعليّين وينسب إلى نفسه القتل هكذا جهارا ويتباهى بذلك، فهو إله إجرامي شرّير.
كان على الطالبي، حافظ القرآن عن ظهر قلب وصاحب جمعية القرآنيين التونسيين، أن يَتَمعّن في هذه المعضلة اللاهوتية التي تمس صورة الله في القرآن، وأن يجيب عن سؤال مدى أخلاقية أعمال القتل التي يقوم بها هذا الإله شخصيا، لكنه ترك المسألة خلف ظهره، وانطلق مُهَرولا إلى المسيحية، وأخذ يتهكّم على إله المسيحيين قائلا: «الرب يهوه .. الذي تغيّر اسمه في العهد الجديد فأصبح يدعى الأب الحنون »، هذا الرب الحنون ألا يحق لنا، يتساءل الطالبي، أن نعتبره «إلها ظالما ظلوما قاسيا متغطرسا، أشد ظلما وقسوة وغطرسة من كل الطغاة والجبابرة الذين عرفتهم البَريَّة منذ بدء الخلق؟ ».
سلّمنا بأن إله المسيحيين هو بكل هذه الصفات القبيحة، كيف هو إله القرآن؟ ألم يُعرّف نفسه بأنه اعتباطي، يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء؟ ألم يَعترف هو نفسه بأنه قتّال؟ ألا يتلذّذ بالقتل الأفظع في العالم: الصّلبُ وقطْع الأطراف من خلاف. وما كُنّا لنُصدّق بأن هذه الشناعات يمكن أن يجرؤ أحد في العالم على القيام بها، لولا أن رأينا القرآنيين يُنفّذونها على مسلمين مثلهم في سوريا والعراق. وأشدّد على هذه التسمية، "قرآنيين"، لأن الإرهابيّين الذين يُفجّرون ويَذبحون ويَسْبون النساء والأطفال، هم أكثر الناس حفظا للقرآن وتمسّكا بتعاليمه، وحرصا على إقامة حدوده.
ومع ذلك فإن الطالبي يَعيب على المسيحيين دينهم وكتابهم، ويَتغبّط على حالهم التّعيسة، لأنهم أناس مجانين، بلا عقل، لا بل لا يملكون «حبّة من العقل »؛ يَعيب عليهم جهلهم وتحريفهم لكتابهم، يُشنّع على إلههم، دون أن يَلتفت إلى إله القرآن، أو يتمعّن بجدّية في صفاته الانثربومورفية الغريبة.
لا يدري كيف يعارض المسيحية، أيّ مَأخذ يأخذه عليها، ما العناصر التي يجب التركيز عليها لنقدها، لأن المسيحية واليهودية والإسلام، كأديان توحيدية، بالنسبة للإنسان العقلاني، هي بؤرة الشرّ والعنف والاقصاء التي يجب على كل مفكر صادق أن يتصدّى لها بكل قوّة وحزم وأن ينزع سمومها القاتلة عن أذهان الناس. لكن المؤرخ الطالبي، بعد ضرباته العشوائية، عثر أخيرا على المَعِين الذي استمدّ منه الموادّ الأوليّة لمعارضة الخرافة، في الخرافة، وهذا جليّ من خلال معارضته لفكرة الصَّلْب المسيحيّة بفكرة اللاّصَلْب الإسلامية. الخرافة الإنجيلية ـ وأتكلّم دائما من موقف عقلاني بحت ـ عارضها بالخرافة القرآنية، المستمدة هي بدورها من خرافة "مانويّة ـ غنوصية"، ومفادها أن المسيح الحقيقي لم يُصلَب وإنما صُلِب شبيهٌ له. في البداية تفضّل على المسيحيين وأعلن حُسن نواياه قائلا: «الصّلب واقع لا مراء فيه »، إذن المسيح صُلِبَ حقا، والخُطوة للقول بأنه قام، قصيرة جدا، وهكذا يَعترف الطالبي، كاره المسيحية، بعقيدة المسيحيين. لكن القرآن يَفعل مَفعوله: ومِن أين لِقُرآني، استبْطَن خطابه وأحكامه، أن يَحِيد عنها؟
فعلا، بالنسبة للطالبي «كان صلبا بدون قيامة»، هذه الأولى. والثانية «لا صَلْب النبيّ عيسى وإنما صَلبُ سَمِيّ له »، يعني شبيه له. صحيح، القرآن يروي هذه الحادثة بإيجاز لا يخلو من شيء من الكوميديا: قُبِض على يسوع وأحيل إلى العدالة، فحُكم عليه بالقتل، لكن الله تدخّل في الحدث، وخدع الناس فقدّم لهم شخصا نُسخة مُطابقة ليسوع ولكن ما هو بيسوع. لم يرفعه مباشرة أمام أعينهم كي يُثبت لهم قُدرته وفائق معجزاته، وإنما أراد أن يمزح قليلا، أن يتسلّى على حسابهم ويُركّب لهم مسرحية: هم يُنَصّبون المشنقة ويَدْعُون الناس للفُرجة، والله يُشرف عليهم هو والملائكة من فوق سبع سماوات ويسخر من غبائهم. ظنّوا أنهم يَصلبون نبيّه عيسى ولكنهم في الواقع يَصلبون انسانا بريئا (بالطبع لم يَتدخّل لإنقاذه) تمّ تبديله عن قصد، بينما رُفع المسيح الحقيقي إلى الفضاء، دون أن يَره أحد.
الطالبي تقبّل هذا السيناريو "التراجي ـ كوميدي" على أنه حقيقة واقعية، واستبعد الرواية الإنجيلية معتبرا إياها تزييف وخرافة، لا يقبلها من رُزق ذرّة عقل، لكن هل هناك ذرّة من عقل في هذه الأسطورة القرآنية؟ هل يمكن للقرآني الطالبي أن يُشغّل ملكاته العقلية لكي يتفكّر في هذا الزخم الخرافي، بدل أن ينهمك في شتم المسيحيين والتجريح في معتقداتهم من منطلق إسلاموي؟
حينما يلتزم قليلا بجُهد المفهوم، ويُشغّل ملكاته عن جدّ فهو يُفرز لنا عصارة تحريفيّة جنونية، من قبيل أن المسيح ليس هو المسيح بل مسيح آخر والمسيح الآخر ليس هو الآخر به شيء غيره. وإليكم أقواله واحكموا أنتم بأنفسكم: «إنّما صُلبَ سَمِيٌّ له، ثائر على روما، ادّعى أنه مَلك اليهود، والمسيح المنتظر لإعادة بناء عرش داود، فحوكم بهذه التهمة، ومن أجلها أعدم صلبا طِبق القانون الروماني، تحت لوحة تُبيّن، بصورة واضحة لا لُبس فيها، نوع الجريمة وسبب الاعدام، كُتب عليها (INRI)، بمعنى "يسوع الناصري ملك اليهود" ». والأناجيل «تذكر هذا الصلب» وتذكر أيضا «ما كُتِب على اللوحة ».
لكن هذه مُواصفات يسوع المسيح كما رَوَتها الأناجيل الأربعة، وكما دَرَج عليها التراث المسيحي كلّه، وهو معتقد أساسي، مرسوم في ذاكرة المؤمنين. وبعد، كيف يَسمح لنفسه بأن يستعمل روايات الإنجيل لضرب الإنجيل؟ أليس الإنجيل مُحرّفا كما أكّده سابقا؟ كيف يَثق بنصّ مُحرّف؟ حينما قلت إن القرآن سحقَ عقول المسلمين فأنا لم أبالغ ولا أمزح بتاتا. هذا الخور، هذا التزوير السافر لكُتب الأديان الأخرى، هذه السخرية المقيتة والتهجمات الحاقدة على الأديان، لا تفسير لها إلا بالمفعول الحمضي للقرآن على عقولهم.
ولكي لا يأخذنا الطالبي والقرآنيون في غمرة تحريفاتهم نورد نص الإنجيل برواية يوحنا الاصحاح 27، الذي رُوِيَت فيه "واقعة" صلب يسوع: (ولمّا طلع الصباح عقد رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب اجتماعا آخر، وتآمروا على يسوع ليُنزلوا به عقوبة الموت. ثم قيّدوه وساقوه إلى بيلاطس الحاكم [...] ووقف يسوع أمام الحاكم، فسأله الحاكم: "أأنتَ ملك اليهود؟" أجابه: "أنتَ قُلتَ" وكان رؤساء الكهنة والشيوخ يوجّهون ضدّه الاتّهامات، وهو صامت لا يردّ. فقال له بيلاطس: "أما تسمع ما يشهدون به عليك؟" لكن يسوع لم يجب الحاكم ولو بكلمة، حتى تعجّب الحاكم كثيرا ... وكان عندهم وقتئذ سجين مشهور اسمه باراباس ففيما هم مجتمعون، سألهم بيلاطس: "من تريدون أن أطلق لكم: باراباس، أم يسوع الذي يُدعى المسيح؟" ... ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرّضوا الجموع أن يطالبوا بإطلاق باراباس وقتل يسوع ... فأطلق لهم باراباس؛ أما يسوع فجلَدَه، ثم سلّمه إلى الصلب ... فصلبوه ثم تقاسموا ثيابه مقترعين عليها، وجلسوا هناك يحرسونه؛ وقد علّقوا فوق رأسه لافِتَة تحمل تهمة، مكتوبا عليها: "هذا هو يسوع ملك اليهود").
هذا هو المسيح الذي تكلم عنه الإنجيل، وهو في نفس الوقت شبيه المسيح الذي تكلم عنه الطالبي، الذي لا يخجل من تحريف كتاب في متناول الجميع والكلّ قادر على قراءته بأي لغة شاء.
أنا لستُ مُلزَما بالاعتقاد في ما يقوله الإنجيل، ولا مُلزما بما يرويه القرآن عن تزوير الله للحدث وعن المسرحية التي ذهب ضحيّتها صالبوا المسيح، وأكثر منه لا أصدّق أي كلمة مما قالها هذا المؤرخ التحريفي.

3. المسيح ليس مسيحهم والله ليس إلههم
-------------------------
أخرجوهم من ديارهم، حَرَمُوهم من عروبتهم ، نزعوا عنهم إنسانيتهم، سَحَبوا منهم عقولهم والآن افتكّوا منهم مَسِيحَهم. فعلا، المسيح بالنسبة للطالبي، هو ليس المسيح كما يعتقده المسيحيون، بل شخص آخر كما علّمنا القرآن ونص عليه الوحي: «يجب أن نُفرّق، وبالنسبة إلينا القرآن هو الفرقان، بين النبي عيسى ـ عليه السلام ـ وبين يسوع، وألا نُطلق أبدا اسم الأول على الثاني ». من هو مسيح المسيحيين؟ هو ابن زنى، يعني ابن إله نكح امرأة، هكذا يقول الطالبي: «ابن الأم مارية التي أخصبها الإله الأب في شبه إخصاب مَحارميّ (incestueux) ». مسيحهم ليس مسيحهم ومَريمهم ليست مَريمهم، وواجبنا هو « ألاّ نسمّيها أبدا مريم القرآنية ».
لكن التنبيه الأشدّ وقعا على مسامع المسيحيّين هو هذا: يجب أن نفرّق بين الله الاسلامي والله المسيحي، والمسيحيون العرب لا يجب عليهم أن ينطقوا باسم الله ويضعوه على أفواههم أو يكتبوه في كتبهم، يجب عليهم أن يُفتّشوا لهم عن اسم آخر، إلاّ الله ممنوع عليهم النُّطْق به: «يجب ألاّ نسمّي أبدا الله، إله المسيحية الثالوثي (le Dieu Trine)، كما هو به العمل في المسيحية الناطقة بالعربية وفي ترجمة الكتاب المقدس إلى هذه اللغة، لأن ذلك يشوّش المفاهيم تشويشا كبيرا».
وقد علّمنا القرآن أن المسيحيين هم مشركون، وبالتالي لا يَحقّ لهم أن يَنطقوا باسم الله، لأن «الثالوث شرك، والله في مَواطن عديدة من القرآن يُحذّرنا من الشرك ». وبالجملة، إلههم ليس إلهنا، ونحن لا نَتبع مِلّتهم ولا تَجْمعنا بمعتقداتهم أيّة قرابة: «الإله المسيحي ليس إلهنا الذي نجده في سورة الإخلاص (قل هو الله أحد الله الصمد ..). إلهنا هو المتعالي المطلق (le Transcendant Absolu) الذي (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)، وهو القريب المطلق (l’immanent Absolu) الذي هو أقرب لعبده من حبل الوريد. إلهنا هو الذي يصف نفسه بنفسه، وذلك لا يوجد لا في العهدين القديم والجديد ولا في أي كتاب مقدّس غير القرآن، في قوله تعالى (هو الله الذي لا إله إلاّ هو عالم الغيب والشهادة. هو الرحمان الرحيم. هو الله الذي لا إله إلا هو: الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر..) ».
بهذا الإله الحامل لصفات متناقضة يريد الطالبي أن يحطّم الإله الثالوثي المسيحي. فالرّجل لا يتفكّر في ما يقول، يكدّس الكلام دون أن يتفطّن إلى التناقضات التي يسقط فيها من قبيل أن الله "متعالٍ مطلق" و"مُحايث مطلق" في نفس الوقت، أو أنه مُؤمن ومُتكبّر. مؤمن بماذا؟ ومُتكبّر على مَن؟ أليس تشبيها حشويا هذا الوصف؟ هو فعلا تشبيه حَشوي مثل كل الصفات الإنسانية التي نسبها القرآن لله، ومن بينها ومن أخطرها "المُكر". لكن السيد الطالبي وجد مخرجا للورطة فزعم أن الله مؤمن بإيمان ليس كما نفهمه نحن، الله هو «المؤمن الأوّل بجدوى خلقه وبِثقته في الإنسان مهما وسوستْ له به نفسه ». أرأيتم هذا التشبيه الغريب: الله يؤمن بالإنسان عوض أن يؤمن الإنسان بالله؟
المهمّ بالنسبة للطالبي أن "الله" الإسلام، المؤمن، والذي لا ندري بالتحديد بماذا يؤمن، هو «ليس إله المسيحية »، لأن «إله المسيحية ثالوثي (Trine)»، متكوّن من ثلاثة آلهة. والأوّل في سلسلة هذا الثالوث، أي الآب، هو أفظعهم لأنه «إله أب مجرّد من الرحمة وممسوخ عن الطبيعة (dénaturé) سَلّم ابنه الفريد إلى القتل بلا حنان ولا شفقة، وتركه يصيح من الألم ويستغيث ولا مُغيث ... ». تصوّروا هذا الكلام يصدر من شخص عاش في فرنسا ردحا من الزمن، درسَ فيها وتخرّج من أرقى جامعاتها، ثم عاد إلى بلده تونس، بلد ذو لون واحد: مسلم سني مالكي، لا يوجد فيه مسيحيّون ولا كنائس، ولا قساوسة، ولا رهبان، ولا صلبان ، وإذا به يهجم على المسيحية وعلى رموزها، بالتجريح والشتم، ويفرغ عليها شحنة مكبوتاته الإسلامية بصورة جد فظيعة.
لم يَسْلَم منه أي مقدّس من مقدسات المسيحية، لا الآب ولا العذراء ولا الابن ولا الروح القدس، وإطاره المرجعي الدائم هو الإسلام. الثالوث المسيحي؟ مُضحك. فهو يشبه شمعدان يهودي «له ساق واحدة، عليها ثلاثة رؤوس: الإله الأب؛ والإله الابن؛ وروح القدس ». ويسوع المسيح؟ مَهزلة: هذا الاله الابن «بعدما صعد إلى السماء وجلس جسديا .. على يمين أبيه الإله الأب »، ماذا فعل؟ «استدعى أمّه ماريّة، أمه وأم الإله، فصعدت بجسدها حية إلى السماء، وجلست إلى جانب ابنها، الذي عيّنها في وضيفة ملكة الكون ». وماذا حصل أخيرا؟ «بعد فُرقَة طويلة ومتاعب وشجون، الْتَأم في السماء شمل الأسرة المالكة، التي تطلق عليها المسيحية اسم "العائلة المقدسة" ».
لكن الوضعيّة العائلية لمريم، أم المسيح، غير واضحة، والطالبي يتساءل بتهكّم، وكأنه يُوعِز إلى أنها امرأة زانية، وأولادها لُقطاء مُشرّدون: «لا ندري ما صنعت مارية بزوجها يوسف: اثنان حَمَلا هذا الاسم. فمن أيّ منهما أنجبتْ؟ ولا ندري ما صنعت بأبنائها الذين أنجبتهم من أحدهما ». وبالجملة العائلة التي يقدسها المسيحيون هي عائلة أسطورية ماجنة، مشتّتة لا ندري ما وضعية أفرادها في الأرض ولا مكانتهم في السماء: «في كل الحالات، أبناء أم الاله، وأخوة وأخوات الإله وابن الاله. فهل هم إذن أنصاف آلهة، كما هو الشأن في الميثيات اليونانية التي الاقتباس منها واضح، وما هو وضعهم الأرضي والسماوي؟ فهل هم في السماء سيُلحقون بالعائلة المقدسة، ويكوّنون حاشية الأسرة المالكة؟ وما هو وضع ذرّيتهم؟ أسئلة عديدة، لا جواب لها ولمثلها ولا متناهية ».
بهذا الخطاب الذي يزخر تهكما وطعنا وتجريحا في مقدّسات المسيحيين فإن السيد الطالبي، من مَوقعه الاسلاموي، يصل إلى النتيجة النهائية التي لا رجعة فيها: «عقائد اخواننا المسيحيين التي لا نشاطرهم فيها ولا نحسدهم عليها، نعتبرها خرافيّة ».
لكن إذا ردّ عليه المسيحيون بأنهم لا يطلبون منه مشاطرتهم عقائدهم، ولا يريدون منه أن يحسدهم، وإنما أن يحترمهم كما هم يحترمون دينه وأن يلتزم الحياد العلمي في بحثه، دون تَغليب دين على آخر، فإن الطالبي يجيبهم بالإمعان في إهانتهم والعودة إلى العائلة المقدسة التي نَغّصت عليه حياته: «فهذه الأسرة المالكة التي مقرها في السماء والتي يلعب فيها روح القدس دور الحاجب، والتي منها يتكوّن الاله الثالوثي، لا نستطيع أن نطلق عليها اسم الله كما يصف نفسه بنفسه في القرآن، ولا ننخدع لتسميتها بهذا الاسم من طرف شيعتها ». وهكذا فإن المسيحيين، لكي يعودوا إلى رُشدهم ويدخلوا في حضيرة العقل، عليهم أن يَعتنقوا دين الإسلام ويؤمنوا بإله القرآن، ويتقبّلوا بصدر رحب شتائم الطالبي.

4. الهَوس بالجنس
-------------
القرآن يذكر وقائع محرجة تخص حياة نبي الإسلام، وأكثرها احراجا هي واقعة زواجه من زوجة ابنه زَيْد، وهي واقعة لو قرأها المسلمون في مُدوّنات حضارة ما، أو في كتب أديان أخرى لاتّخذوها ذريعة للقدح فيهم وفي أخلاقهم، ولو قرأوها في احدى روايات البخاري لكذّبوها ولَضَعّفوا الحديث أو عدّوه من بين الإسرائيليات المدسوسة. لكن وُرودها في القرآن بتلك التفاصيل المحرجة سدّت عليهم كل مَنفذٍ، جَعَلتهم يحومون في حلقة مفرغة، في فوضى ذهنية، بلبلت عليهم أفكارهم ومشاعرهم، إلى درجة أنهم لا يَطيقون سماع مَن يطرح مجرّد تساؤلات عن المغزى الأخلاقي لهذه المغامرة الجنسية.
المؤرخ محمد الطالبي، عوض أن يوضّح الموقف ويردّ على النقاد، فهو يشير بإصبع الاتهام إلى المسيحية وكأن المسيحيين هم الذين كتبوا القرآن أو اختلقوا الحادثة من محض خيالهم. وهذه واحدة من ردات الفعل التي اتّخذها، لكي يُغيّب الاحراج الأخلاقي لهذه الواقعة. يَهجم بكل صلافة على المسيح وعلى الأناجيل، ويقول: إذا أردتَ أن ترى أمامك الرذائل فاذهب إلى المسيحية: «الفسوق الجنسي، إنما استباحة كل الرذائل بلا قيد زواج أو أخلاق، في هذا الميدان لقد فازت المسيحية بقصب السبق ». على حدّ زعم الطالبي إذن، كان على المسيحيين أن يَخجلوا من دينهم؛ أن يَذرّوا الغبار على رؤوسهم، أو ينتحروا مرة واحدة ويُريحُوا أنفسهم من حياتهم التعيسة لأن دينهم، الذي آمنوا به هم وآباؤهم لمدة ألفي سنة، هو بؤرة الفسق الجنسي، خزّان الموبقات والرذائل. أعيد وأكرر، هذا ليس كلام داعية وهابي من على احدى الفضائيات، بل عصارة أفكار مؤرخ قدير، درس بفرنسا، زار كنائسها، ربط علاقات مع قسيسين ورجال كنيسة، تمّ تكريمه في إيطاليا من طرف مؤسسة جوفانّي أنيالّي (Giovanni Agnelli)، صاحب شركة صناعة السيارات الشهيرة "فيات (Fiat)"، وإذا به يُكافئهم بوابل من الشتائم وبأبشع وأقذر النّعوت.
بديهي أن لكلّ باحث الحق في أن يَنقد أي دين، ومن واجبه العلمي أن يُجري نصوصه "المقدسة" وتعاليمه اللاهوتية على محك النقد التاريخي العقلاني. لكن هذا النقد المشروع لا ينبغي أن يُكبَح أو يُعاق حينما يتعلّق الأمر بالدين الموروث، ولا يمكن أن يوضع هذا الموروث كإطار مرجعي للحكم على الأديان الأخرى. الطالبي، فعل هذا وذاك: تخلّى عن مهمّة المؤرخ النقدية، وعوض أن يُجيب عن سؤال: كيف يمكن لنبيّ أن يتزوج من امرأة ابنه؟ لماذا اختارها هي بالذات وترك مئات النساء من حوله؟ علّق المسألة وفتح النار على المسيحية وطفق يُلقي عليها بأبشع ما يتصوّره الخيال من شتائم.
فالرجل لا يَكلّ من القول بأن المسيحية هي دين الرذيلة بامتياز، وأن الأدلة موجودة في الإنجيل ذاته، فهو المصدر الأوّل الذي يُثبت فسوق المسيحية وفجور مؤسِّسها، يسوع المسيح. يكفي أن تقرأ الإنجيل حتى تُدرك هذه الحقيقة الفاقعة. وهذا في حد ذاته أمر عجيب ومفزع في نفس الوقت، لأن المسيحيين، منذ ألفي سنة، وهم مُنكبّون على قراءة إنجيلهم في صَلواتهم وتَسابيحهم، ورغم ذلك فإنهم لم يتفطّنوا لما تفطّن إليه الطالبي، أي أنهم يَتّبعون رجلا فاسقا مُتعرٍّ عن الأخلاق، وبلا فضيلة: «إن الأناجيل لا تقول إن يسوع الاله قد تزوّج كغيره من الآلهة، بل حرّم الطلاق، وكان يُفضّل الخصيان ».
أين عثر على هذه الميول الجنسية "المنحرفة" ليسوع؟ وجَدَها في إنجيل متّى (1: 12). لكن ماذا نقرأ في هذا الاصحاح وفي هذه الآية بالذات؟ أسردُ النص في الترجمة العربية: «وبعد السّبي إلى بابل، يَكُنْيَا أنجبَ شألتئيل، وشألتئيل أنجب زُربّابل»؛ النص الأصلي لمن يعرف اليونانية: «Μετα δε μετοικεσιαν Βαβυλωνος Ιεχονιας εγεννησεν τον Ζαλαθιηλ δε εγεννησεν Ζοροβαβελ»؛ وللإسهاب نعطيه الترجمة اللاتينية القديمة (Et post trasmigratione Babylonis : Iechonias genuit Salathiel. Salathiel autem genuit Zorobabel) .
هذا المؤرخ لا يُحرّف فقط النصوص، لا يزوّر الحقائق بل يَسْتَبْله قرّاءه ويَسخر منهم، وفي هذا فهو يَسير على خُطى الإسلاميين في كتيّباتهم الدعائيّة الضّحلة. ويَكفي هذه السّقطة الفظيعة لكي تدفع القارئ إلى إغلاق الكتاب ورَميه في سلّة المُهملات، والكفّ عن محاورته وتركه في سكرة تزويره وعنفه. لكن، للأمانة العلمية، نواصل السّير معه، و"نوصّل السارق إلى باب داره"، كما يقول المَثل التونسي. قد يقول أحدهم ربما هناك خطأ في ترقيم الإصحاح والآية؛ لعلّه كان يقصد الاصحاح 12 الآية 1، ولا هذه تُنقذه من الورطة، لأننا في متّى 12: 1، نقرأ: (في ذلك الوقت مرّ يسوع بين الحقول في يوم السبت، فجاء تلاميذه، فأخذوا يقطفون سنابل القمح ويأكلون).
نَعلمُ من السيد الطالبي أن يسوع المسيح لم يكن مُتَسيّبا أخلاقيا فحسب، بل أكثر وأشنع من ذلك، كان يمارس الرذيلة، وكان مُتعوّدا على زيارة بيُوت الدّعارة: «كان يزور بيوت المُذنبات العاهرات (pècheresses ) فيُسَارِعْن في إرضاء رغباته ». والدليل هو نص لوقا (10 : 38 ـ 42). للتثبت فتَحْنا إنجيل لوقا وقرأنا الآيات التي ذكرها: (وبينما هم في الطريق، دخل إحدى القرى، فاستقبلته امرأة اسمها مارثا في بيتها. وكان لها اختٌ اسمها مريم، جلست عند قدمي يسوع تسمع كلمته. أما مَرثا فكانت منهمكة بشؤون الخدمة الكثيرة. فأقبلت وقالت يا رب، أما تبالي بأن أختي قد تركتني أخدم وحدي؟ فقل لها أن تُساعدني. ولكن يسوع ردّ عليها قائلا: "مرثا، مرثا! أنتِ مُهتمّة وقلقة لأمور كثيرة. ولكن الحاجة هي إلى واحدٍ، ومريم قد اختارت النصيب الصالح الذي لن يؤخذ منها").
قد يتساءل المسيحي: هل ثمة، في هذا النص، ما يُشير، من قريب أو بعيد، إلى نكاح أو دعارة أو ممارسة جنس مع نساء وغلمان؟ هل في هذا الكلام دعوة للرذيلة؟ لو قمنا بجولة سريعة في التفاسير المسيحية لما عثرنا ولو على ذرّة واحدة ممّا ادّعاه هذا الرجل. ولكي أبرهن على كلامي سأعرض بعض التفاسير التي قام بها المسيحيون أنفسهم، ونُقارِنها بما كَتَبَه المؤرخ التونسي، الدكتور محمد الطالبي، خرّيج جامعة السوربون.
بِيدَه المُبجّل (Vénérable Bède ): «إن المُخلّص علّمنا في البداية محبة الله والقريب، بالكلام والأمثلة، والآن يُعلمنا إياها بالأفعال والحقائق ». أوغسطينوس: «لكن السيّد الذي جاء إليه، دون أن يريد أهله استقباله (يوحنا، 1)، استُقبِل هنا كغريب: "فاستقبلته امرأة اسمها مرثا في بيتها". لقد استقبلته كما يُستقبل المسافرون، ومع ذلك فإن الأَمَة تستقبل سيّدها، والمريضة تستقبل مخلصها، والمخلوق يستقبل خالقه. لا تقولوا: "يا لسعادة من يقبل يسوع المسيح في بيته، لا تغبّطوهم على سعادتهم، لأن ربّنا قال: "كل ما تفعلوه بأحد الصغار، فعلتموه لي (متّى، 25)". إذا سمح إذن بأن يُطعَم، فهذه نعمة حُظي بها الشخص الذي استضافه. مرثا كانت تهيئ كل اللوازم لكي تستقبل سيّدنا بلياقة، وتَتَفانى في خدمته، بينما ماريا، اختها، فضّلت الغذاء الروحي الباطني: "وكانت لها اخت اسمها مريم، جلست عند قدمي يسوع تسمع كلمته" ». كريزوستوم (فم الذهب) يعلّق: «الانجيلي لا يقول فقط إن مريم كانت جالسة بجانب يسوع، بل "كانت جالسة عند قدميه" لكي تُعبّر أكثر عن حماستها، عن حرصها، على التقاط كلمات يسوع، والاحترام العميق الذي تكنّه للربّ ».
أوغسطينوس: «كلما تواضعتْ أكثر بين يدي المخلّص، قَطَفتْ بوفرة كلماته الالهية، لأن الماء يسيل بغزارة في أعماق الوديان، بينما ينزل من قِمَم التلال التي لا تقدر على حفظه ». بازيليوس: «كل أفعال المخلّص، وكل أقواله هي لنا قواعد رحمة وفضيلة، لأنه لَبِسَ جسدنا لكي نقدر على محاكاة سيرة حياته بحسب طاقتنا ». كيرلس: «يسوع يُعلّم تلاميذه بسِيرته الحسنة التي ينبغي عليهم اتباعها حينما يتم استضافتهم في بيتٍ ما؛ يجب عليهم عند دخوله، ليس الاستمتاع بالراحة فحسب، وإنما ملئ أرواح أولئك الذين استقبلوهم بالتعاليم الالهية المقدسة. أما أولئك الذين يوفّرون لهم الضيافة، يجب عليهم أن يقوموا بها بسرور وعناية، لسببيْن: سيجدون موضوعا لبنائهم الروحي في تعاليم من استقبلوهم، وسيَنالون هم بدورهم مكافئة رحمتهم ».
أوغسطينوس: «مرثا كانت منشغلة بتوفير الضرورات الجسدية ورغبات الطبيعة الانسانية للرب؛ لكن ذاك الذي تراه لابسا جسدا فانيا، كان منذ البدء اللوغوس. إن هذا اللوغوس هو الذي كانت تُصغي إليه مريم. هذا اللوغوس المتجسّد، هو أيضا الذي تَخدمه مرثا. الأولى تشتغل، الثانية تتأمّل. لكن مرثا كانت مُجهَدَة بهذا العمل وبكل العناية اللازمة، تتوجه للربّ، وتشتكي من اختها: " يا رب، أما تُبالي بأنّ أختي قد تركتني أخدم وحدي؟". مريم بالفعل كانت مسلوبة بحلاوة كلام الربّ، مرثا تُحضِر الوليمة للمخلص، الذي هو نفسه يهيّئ لمرثا وليمة أكثر حلاوة. لكن، كيف لم تخش أن الرب، مضغوط من طرف اختها، سيقول لها: "انهضي وساعدي اختك"، بينما هي تتذوّق حلاوة كلام المخلّص، وقَلبُها كان غارقا كله في هذا الغذاء الإلهي؟ كانت غارقة في لذائذ لا توصف، أصْفَى وأرقى شأنا من لذائذ الجسد. وقد تقبّلتْ عتاب الخمول، وسلمّت أمرها لقاضيها، دون أن تتحمّل عناء الردّ، خوفا من أن الانشغال بالردّ فقط سيقودها إلى التلهّي عن كلمات الربّ. فأجاب الربّ: ""مرثا، مرثا! أنتِ مُهتمّة وقلقة لأمور كثيرة". هذا التكرار لاسم مرثا، هو علامة مودّة المخلّص لها، أو وسيلة لكي يجعلها اكثر انتباها للدرس الذي سيعطيها. "أنتِ بأمور كثيرة ... "، يعني أنكِ مشغولة بكثير من الأشياء. فعلا، حينما يُقْدِم المرء على خدمة ما، فهو يريد استكمالها بالتمام، ولكنه لا يستطيع؛ يبحث عما ينقصه، يُحضر ما هو متوفر بين يديه، وعقله سارح، في تشتّت واضطراب. وهكذا فإن مرثا ما كانت قطّ لتطلب من اختها أن تأتي لمساعدتها، لو كانت قادرة لوحدها على تأدية العمل. كانت مُنكبّة على كثير من الأشياء، همومها، انشغالاتها كانت متعددة، ومُوَزّعة على أصناف مختلفة، لأنها مُنصبّة على أشياء هذه الأرض ».
ها نحن أمام مجموعة من حُذّاق المفسرين المسيحيين الذين قرؤوا كلام يسوع في الإنجيل، ولم يعثروا فيه على أية دعارة أو شذوذ، بل إنهم استخرجوا منه مُثُل أخلاقية راقية، كالفضيلة والرحمة والصدق والاخلاص، والعفة. لماذا يزجّ المسلم بأنفه في أناجيل المسيحيين؟ لماذا يتعمّد التجريح في مقدساتهم ويتهم يسوعهم بأقذع النعوت؟ لماذا لا يعتني بدينه ويقف على مفارقاته؟

5. حديث النّكاح في المسيحية
-------------------
أما الحادثة الأخرى التي استشهد بها الطالبي لإثبات أن يسوع كان يَرتاد بيوت الدّعارة وكان يُمارس الجنس مع المُومِسَات، وجدَها مرة أخرى في نص الانجيل، وهي مقاطع، حسب قناعته، تُورّط المسيح نهائيا: «وليلة صلبه، عندما كان مُتّكئا على سرير على الطريقة الرومانية، يشهد مأدبة فاخرة أقيمت على شرفه: ( إذ امرأة من أهل المدينة، كانت تمارس البغاء، علمتْ أنه كان في بيت الفِرّيسيّين متّكئا للطعام، دخلت فجأة، وكانت معها قارورة طيب من المرمر. فانتصبت خلف يسوع، وكلّها دموع، جاثية عند قدميه، تُفيض عليهما دموعها، ثم تمسحهما بشعرها، وتطفق تقبّلهما، وتُفرغ عليهما الطيب) (لوقا، 7: 36 ـ 38) ».
إن هذه الواقعة، في رأي مؤرّخنا، تُثبت، بما لا يدع مجالا للشكّ، أن يسوع الإله «كان يُفضّل هكذا الزنا على الزواج، وما حاجته للزواج؟ وفي تعدد الزوجات؟ وكل "المذنبات" يشغفن به إلى هذا الحدّ، وهنّ ملك يديه، ما دَخَلَ مدينة وجلس إلى مائدة فاخرة إلاّ هرعن إليه! ». لماذا يؤمنون به إذن؟ لماذا يؤلّه المسيحيون زير نساء، يجوب القرى ويشارك في عمليات نكاح جماعي؟
أنا لا أدافع عن المسيحية، ولستُ مَعنيّا بالدفاع عن أي دين، لأن موقفي من الأديان هو موقف الرفض الكلّي والتام والثابت، وقد عرضتُه في كتابي "تحقيق ما للإلحاد". أنا أدافع عن عقلي وأحمِي نفسي من جنون الأديان وتعاستها؛ أجتهد لكي أعرّي عجرفة المتديّنين وغرورهم واحتقارهم لبعضهم وحروبهم الدائمة في ما بَيْنهم.
إن الطالبي يُقدّم لنا مثالا حيّا، ومُحْزنا على هذه الحرب الشرسة بين الأديان، ويعطي نموذجا من سياسة التجريح المُتقَاطع، ولكن هذا الرجل فاق الجميع ببذاءته وكرهه الدفين للمسيحية، وإن كلّفه الأمر تزوير النصوص وتلفيق الشهادات والإتيان بتأويلات خيالية. الموضوعية العلمية تُحتّم على الباحث الجدي تقديم النصوص الأصلية، وعرض التأويلات التي قام بها المسيحيون أنفسهم والمعاني التي استخرجوها منها، وترْك الحكم للقارئ.
نبدأ بسرد النص الإنجيلي. الحادثة التي أوعز إليها الطالبي جاءت في انجيل لوقا (7: 36 ـ 50 ) كالتالي: (ودعاه أحد الفرّيسيين أن يأكل معه، فدخل بيت واتكأ. وإذا امرأة في المدينة كانت خاطئة ( "mulier .. peccatrix" ؛"γυνὴ .. ἁμαρτωλός")، إذ علمت أنه متكئ في بيت الفريسي، جاءت بقارورة طيب ووقفت عند قدميه من ورائه باكية، وابتدأت تبلّ قدميه بالدموع، وكانت تمسحهما بشعر رأسها، وتُقبّل قدميه وتدهنهما بالطيب. فلمّا رأى الفريسي الذي دعاه ذلك، تكلم في نفسه قائلا: "لو كان هذا نبيّا، لعَلِم مَن هذه الامرأة التي تَلمسه وما هي! إنها خاطئة". فردّ عليه يسوع قائلا: "يا سمعان، عندي شيء أقوله لك". فقال: "قل، يا معلم". كان لمُدَاين مَدْيُونان. على الواحد خمسمئة دينار وعلى الآخر خمسون. وإذ لم يكن لهما ما يُوفيان سامحهما جميعا. فقل: أيهما يكون أكثر حبّا له؟ فأجاب سمعان وقال: "أظن الذي سامحه بالدين الأكبر". فقال له: "بالصّواب حكمتَ". ثم التفتَ إلى المرأة وقال لسمعان: "أتَرى هذه المرأة؟ إني دخلتُ بيتَك، ولم تُعطني ماء لِغَسْلِ قدميّ! وأما هي فقد غسلت قدميّ بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها. أنتَ لم تقبلني قبلة واحدة! أما هي فمنذ دخلتُ لم تكفّ عن تقبيل قدميّ. أنتَ لم تدهن رأسي بزيت! وأما هي فقد دهنتْ بالطيب قدميّ. من أجل ذلك أقول لك: قد غفرتُ خطاياها الكثيرة، لأنها أحبّتْ كثيرا. والذي يُغفَرُ له قليل يُحِبّ قليلا. ثم قال لها: "مغفورة لك خطاياك!". فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم: "من هذا الذي يغفر الخطايا أيضا؟ فقال للمرأة: "إيمانُك قد خلّصك، اذهبي بسلام!").
لو كان السيد الطالبي موضوعيا، وراغبا في الحقيقية، لما تَلهّف على التّجريح والشتم والادانة، ولعَرَض النص بكامله، لا أن يَبْتره ويلوي عنقه لكي يستخلص النتيجة التي يريد استخلاصها، أي أنّ المسيح هو زير نساء. لو كان المسيح، حسب هذه الرواية، زير نساء، خليع وفاسق، لما قال لها: "اذهبي بسلام"، بل لقال لها: ادخلي الحجرة سآتيك ريثما أتناول الطعام.
إن المفسّرين الأوائل للإنجيل لم يعثروا على أيٍّ من القبائح التي عدّدها الطالبي ونسبَها إلى يسوع، بل استخرجوا من هذه الحادثة مَعانٍ أخلاقية ولاهوتية راقية، نعرض بعض المقتطفات منها. غريغور النيصي: «إن هذه الرواية تتضمّن درسا مفيدا جدا. ذلك أن أغلب أولئك الذين يعتقدون أنهم عادلون، كثيرا ما يكونون منتفِخين بادّعائهم وسخافة أفكارهم، فيَفصلون أنفسهم عن الناس كما ينفصل الخرفان عن الأبقار؛ إنهم يرفضون الأكل مع العامّة، ويُعادون المُنصِفين الذين يتفادون الافراط والتفريط، أو يتّبعون الوسطية في سيرة حياتهم. لكن، القديس لوقا، طبيب أرواح أكثر منه أجساد، يُرينا الربّ نفسه ومخلّصنا يَزور بطيبة خاطر كل الناس: "فدخل بيت الفريسي، واتّكأ"، لا لكي يَقتَنيَ شيئا ما من حياة الفرّيسي الآثمة، وإنما لكي يجعله مشاركا له في عدالته ذاتها ».
القديس غريغور: «هذه المرأة تَفكّرتْ الأدران التي لطّختْ حياتها الخليعة، فهرعَت لكي تتطهّر من منبع الرحمة ذاتها، لم تخجل من الظهور أمام الضّيوف؛ لأنها كانت تشعر في قرارتها بخجلٍ شديد من نفسها، بحيث إنها لم تَعتن كثيرا بما يأتيها من خارج. انظروا إلى الألم الذي يَنخر هذه المرأة التي لم تخجل أبدا من سَكْبِ الدّموع بين أفراح اللمّة ». غريغور النيصي: «مُقتنعة اقتناعا تاما بعدم أهليّتها، فقد مكثت خلف يسوع، العينان مَنكوستان والشعر مُتناثر، تُقبّل قدميه وتسكبُ فيضا من الدموع، تُبدي هكذا بأعمالها الحزن المتمكّن من نفسها، وتطلب عفوه ... لقد انفتحتْ عيْناها على كل ملذات الحياة، لكن الآن، بالتّوبة، أطفأتْ نار عينيهما بفيضٍ من الدموع؛ كانت تستعمل شَعرها لتلميع جمال وجهها، والآن تستعمله لكي تمسح دموعها ... كان فَمُهَا يلهج بكلام نابعٍ من الخيلاء؛ الآن هي تُقبّل قدمي المخلّص وتَطبع شَفتيها على رجلي الفادي .. لقد استعملت العطور لكي تُعطي لجسدها رائحة زكيّة، وما أسرفت فيه لنفسها بطريقة مخجلة، قدّمته الآن لله كتضحية عجيبة .. وهكذا فإنها بقدر ما كانت تجد نشوة في ذاتها، بقدر ما تقدّم الآن من تضحيات؛ عدد فضائلها يساوي عدد خطاياها؛ تريد أن يتحوّل كل ما كان أداةٍ لإغضاب الله، إلى أداة نَدمٍ لإرضائه ».
كريزوستوم (فم الذهب): «وهكذا فإن هذه المرأة ذات السيرة السيّئة أصبحتْ أكثر فضيلة من العذارى، لأن هذا التّكفير المتحمّس عن الذنب، أُتبِعَ بمحبّة أكثر تحمّسا ليسوع المسيح. ولا نتحدّث هنا إلاّ على الظاهر؛ أمّا التّحمس الكبير الذي يعتمل في نفسها، الله فقط هو الشاهد عليه ». غريغور: «الفرّيسيّ، حينما رأى هذا المشهد، لم يُثر فيه إلاّ الاحتقار لهذه المرأة، وطفق يُلقي بِلوْمه ليس فقط عليها، هي التي تجرّأت على الاتيان ليسوع، لكن على الربّ الذي استقبلها بحفاوة ... ها هو الفريسي باعتزازه المفرط وعدالته الزائفة، يُدين المَريض لسُقمِه، والطبيب للعلاج الذي يوفّره. لا شك أن هذه المرأة لو ارتمت بين قدميه، لدَحَرَها بازدراء؛ كان يَتخيّل أن هذا الاقتراب سيُلوّث روحه لأنه لم يكن مُتشبّعا بالعدالة الحقّة. وهكذا فإن البعض من الذين يمارسون مهنة الوعظ، كلّما قاموا بعمل عادل هزيل، إلا ونظروا بعين الاحتقار إلى أولئك الخاضعين لسلطتهم، ويزدرون كل المذنبين الذين يُصادفونهم. لكن يجب علينا، على العكس من ذلك، حينما نعتبر الحالة التعيسة للمذنبين، أن نتفكّر في أننا كنّا قد سقطنا بعد، أو أنه يمكننا أن نسقط في نفس الأخطاء. يجب التصرف بحكمة فائقة، يجب أن نكون صارمين إزاء الرذيلة؛ مملوئين اشفاقا على الأشخاص؛ إذا كان المذنب يجب أن يُعاقب، فالقريب له الحق في رحمتنا، بل أذهب أبعد من ذلك وأقول: في اللحظة التي يعاقب فيها المذنب نفسه بالنّدم عن الشر الذي اقترفه، فهو يكفّ عن أن يكون مذنبا، بما أنه يُعاقِب في نفسه ما تُدينه العدالة الإلهية. إن سيّدنا، بالتالي، كان بين مَرِيضيْن، لكن أحدهما، حتى في حُمّاه، حافظ على سلامة عقله، بينما الآخر فَقَدَ عقله؛ المرأة المخطئة تبكي الذنوب التي اقترفتها؛ الفرّيسي، على العكس، مغرور بعدالته الكاذبة، يبالغ في التّباهي بصحّته الجيّدة ».
كيرلّس الاسكندري: «جاء ليَصفح عن المثقلين بالدّيون، كثيرها وقليلها، وليرحمَ الصغير ويعطف على الكبير ... حرّر المرأة الخاطئة من آثامها الكثيرة قائلا: "غفرتُ لك خطاياك". يجدر الاشارة إلى أنّ مِثل هذه المرأة تستحق الغفران! إن كلمتَه ترتبط بسلطة عُليا. وبما أن الشريعة أدانت الخطّائين، فمن يقدر على أن يُعلن ما هو أسمى من الشريعة إلاّ الذي أعطاها؟ »
كريزوستوم (فم الذهب): «بعدما تَهطل المطر بغزارة، تستعيد السماء صفاءها؛ هكذا بعد انهمار غزير للدموع، يعود الهدوء، وغيوم ذنوبنا تتقشّع ونَتَطَهّر مجددا بالدموع والاعتراف، كما وُلدْنا من قَبْل بالماء والروح: "من أجل ذلك أقول لك: قد غفرتُ خطاياها الكثيرة، لأنها أحبّتْ كثيرا". فعلا، أولئك الذين ارتموا بكامل أجسادهم في الشر، حينما يَتُوبون فإنهم يُقدِمون بنفس القدر من الطاقة على فعل الخير، متذكّرين الدّيون التي استدانوها ». القديس غريغور: «إذن كلّما ازداد قلب المذنب احتراقا بنار الرحمة، كلما ازدادت هذه النار استهلاكا للصدأ ولأدران الخطيئة ». كريزوستوم: «فلتكُن أرواحنا مليئة بالحماسة؛ لأن لا شيء يَمنَع من أن نبلغ الكمال الأعلى؛ لا واحد من المذنبين يجب عليه أن يفقد الأمل في الخلاص؛ لا واحد من الصالحين يجب أن ينحدر في الخفّة؛ فليتّق الصالح الثقة المتعجرفة في النفس (لأن امرأة ذات سيرة سيّئة غالبا ما تسبقه إلى مملكة السماء)؛ ولا يَيأسنّ المذنب أبدا؛ لأنه بإمكانه أن يعلو على أتقى الناس: " ثم قال للمرأة: "إيمانُك قد خلّصك، اذهبي بسلام!" ».
القديس غريغور: «هذه المرأة إذن التي أتت مريضة لتُلاقي الطبيب، نالت الشفاء، لكن هذا الشفاء نفسه أصبح لأولئك الذين شهدوه سببا للمرض: " فابتدأ المتكئون معه يقولون في أنفسهم: "مَن هذا الذي يغفر الخطايا أيضا؟". لكن الطبيب السماوي لم يُعِر أي اهتمام لهؤلاء المرضى الذين تدهورت حالتهم بمفعول الدواء الذي يجب أن يخلّصهم، بينما يقوّي بالكلمة الرحيمة تلك التي شفاها: " فقال يسوع للمرأة: "إيمانُك قد خلّصك"، ذلك لأنها لم تتردّد في الإيمان بأنها ستنال ما تطلبه ». ثيوفيل: «لم يكتف سيّدنا بمنحها المغفرة لخطاياها، أضاف نعمة فعل الخير "اذهبي بسلام (يعني في العدالة)"، لأن العدالة هي سلام الإنسان مع الله، كما أن الخطيئة هي الحرب على الله؛ يقصد: اعملي كل ما يمكن أن يقودك إلى السلام مع الله ». غريغوار: «ماذا يرمز هذا العطر سوى أنه رائحة صيت طيّب؟ إذا فعلنا إذن أعمالا حسنة، تَفوح شهرتها مثل العطر في كامل الكنيسة، وهكذا ننشر بالمعنى الحق العطور على جسد الربّ. هذه المرأة انزوت عند رجلي السيّد، لأننا نتمسّك برجليه مباشرة عندما نقاوم مَسْلكَها في خضمّ خطايانا؛ لكن حينما نعود إليه، بعد اقترافنا الذنوب، في توبة نصوحة، عندها نسير خلفه، حذو قدميه، وهكذا نتقفّي آثاره التي كنا قد قاومناها ».
القديس امبروزيوس: «أنتم إذن أيضا أولئك الذين أخطأتم، ارجعوا لطُرق التوبة، اهرعوا إلى أي مكان تسمعون فيه اسم يسوع المسيح، اسرعوا لدخول كل بيت تعلمون أنه دخله يسوع؛ حينما تجدون الحكمة جالسة في أي مكان، اهرعوا لكي تَرْتَموا بين قدميها، واعترفوا بذنوبكم في الدموع. ربما لن يغسل يسوع المسيح قدميه في هذه الحالة، لكي نغسلها نحن بالدموع، دموع سعيدة تقدر ليس فقط على غسل أخطائنا، وإنما سَقْي رجلي الكلمة الإلهية، لكي تصبح خُطاه لنا منبعا لا ينضب للرحمة!». القديس غريغور: «نحن نغسل رجلي الرب بدموعنا، عندما، برغبة جامحة من العطف، نَنحني أمام الأعضاء المتواضعة للسيّد؛ نمْسح قدميه بشَعرنا حينما تدفعنا الرحمة لنجدة، بما نملكه، خدّام الله القديسين». القديس امبروزيوس: «مَشّطوا شعوركم، القوا بين قدميه كل ما يزيّن جسدكم؛ إن الشعر ليس أبدا خسيسا، بما أنه يصلح لمسح قدمي يسوع المسيح ».
القديس غريغور: «هذه المرأة تُقبّل قدمي المخلّص بعد أن مَسَحَتْهما، وهذا ما نفعله نحن أنفسنا، حينما نحبّ بحنان أولئك الذين أنقذناهم من الفقر بسخائنا. بإصبع ربّنا يمكن أيضا أن نعني سر التجسّد؛ نحن نقبّل إذن قدمي الفادي عندما نتشبّث بكل قلبنا بسر تجسّده. نَسْكبُ العطور على قدميه، حينما نُعلن قوّة انسانيته بالصيت العالي للكلمة المقدسة». القديس أمبروزيوس: «المخلّص أخرج الفضيلة البطولية لهذه المرأة: " أما هي فمنذ دخلتُ لم تكفّ عن تقبيل قدميّ"، يعني أنها لا تريد أن تعرف غير لغة الحكمة، غير حب العدالة، غير تقبيل العفة». أمبرزيوس: «سعيد من يمكن أن يسكب زيت المسح على قدمي يسوع المسيح، لكن أسعد منه ذاك الذي يقدر على أن يُعَطّرها بالعطر؛ لأن جَمْع عدد كبير من الورود يشكّل خليطا من الروائح العبقة والمختلفة. وحدها الكنيسة لها الفضل في صناعة هذا العطر، هي التي تملك عددا لا يحصى من الورود التي تفوح روائح عديدة مختلفة؛ لا واحد يمكنه أن يحتكر لنفسه هذا الحب الكبير إلاّ الكنيسة التي تحب بقلبها كل أبنائها ».
أكتفي بهذا القدر، وأعتذر على الاطالة، ولكن الأمر مفروض علينا لأن هذا المؤرخ يُطالب الجميع بالصرامة العلمية، وبالدقة في الاستشهاد والتحرّي من النصوص وإيراد المصادر المؤيّدة، ونحن لبّينا مطلبه، وجئناه بالشواهد من منابعها الأصلية. الحوار الفكري النزيه لا يُجيز لأي أحد أن يتهجّم على أي دين وجرح حساسية مؤمنيه بهذه الطريقة الفجة وباستخدام هذا الكمّ الهائل من التعابير النّابية القبيحة، وذلك في سبيل الإعلاء من دينه والحط من دين الآخرين. الانطلاق الصحيح لنقد الأديان وكتبها "المقدسة" يأتي من قِبل العقل ومن العقل فقط، وهو الوحيد المُخوّل لحسم هذه المسألة وإعطاء القول الفصل.

6. المسيحية هي الفسق
---------------
ولكن بما أن الرجل ركّز على الجنس، كما يفعل كل المسلمين لنقد الديانة المسيحية، فإن المسيحيين بدورهم يستطيعون أن يردّوا عليه ويُبكّتوه، عن طريق نص القرآن نفسه، أما إذا استندوا إلى الأحاديث فإنهم سيَمْحَقونه مَحقا. قد يردّ الطالبي بأنه قرآني خالص، لا يعترف بأي حديث، وبأية شريعة، أو فقه، لكن هذا لا يخلصه من المأزق لأن القضية تتعلق تحديدا بنص القرآن لا غير.
لقد شن هجمته العنيفة على المسيحية، وساح في تجريحها، فقط لأنه وجد في القرآن، أن نبيّ الإسلام تزوّج امرأة ابنه وأن هذا الزواج تمّ بمُباركة من الله. ليس من المعهود، لا بين المتحضّرين ولا بين البدائيين، أن يتزوّج شخص زوجة ابنه، هذا فعل لا يليق بأي إنسان يحترم قيم الاجتماع وحُرمة الأسرة، وأخطر من ذلك أن تُنسب هذه الرخصة إلى الله: إنه مأزق أخلاقي ولاهوتي فظيع. الطالبي، من موقعه كإسلامي، يقدّس القرآن إلى حد التأليه، يريد أن يجد مخرجا كي يُخفف من وَقْع الصدمة، فلم يجد أمامه إلاّ تغييب القضية والخروج عن الموضوع. وبنوع من الضّربة الاستباقيّة حوّل وجهته إلى المسيحيين واتّهمهم بالمجون والخلاعة والفحش والفسوق، وبممارسة كل الرذائل التي يمكن أن نتخيّلها، ولم يكتف بذلك بل إنه التفت إلى يسوع المسيح ووصفه بصفات نابية، وقال إنه زير نساء يرتاد بيوت الدعارة ويتسكّع بين الغلمان. أقوال جارحة بالنسبة للمؤمن، لو تفوّه بنصفها أحد المثقفين المسيحيين ضد نبيّ الإسلام لأفتَى هذا الرجل بقتْله.
إن هذه المقدمة العنيفة ضد المسيحيين والزجّ بهم في مسألة تخص المسلمين ـ وكأن المسيحيين هم الذين كتبوا القرآن أو قصّوا حكاية زواج محمد من زينب ـ الغاية منها هي إلهاء القارئ ووقايته من الصّدمة التي تثيرها في نفسه حادثة مُحرجة من هذا القبيل. وعلى الرغم من أن هذا الرجل، مثل يوسف الصديق، ينفي مشروعية التفاسير القديمة وتراث الأحاديث، فهو يعود إليها لكي يذكّرنا بأن تلك الآيات التي نزلت في زينب بنت جحش «يمكن أن نضبط تاريخ نزولها بكل دقّة ويقين ».
لا أدري كيف يمكن لمؤرخ مُدقّق وصارم أن يقول شيئا من هذا القبيل؟ أين دليله المادي على حصول هذه الحادثة بالصيغة التي روتها الأحاديث؟ هل له وثيقة رسمية تُثبتُها اثباتا قاطعا؟ قد تكون ملابساتها موجودة في القرآن، لكن القرآن لا يذكر أي اسم، ما عدا أبا لهب وزيد؛ لا نجد فيه حتى اسم أكابر الصحابة، مثل أبا بكر أو عمر أو علي؛ القرآن لا يُحدّد أي مكان وأي زمان، كلها ايماءات فضفاضة وكيانات بلا أسماء. لكن كل ما قاله وما سيقوله القرآنيّ، محمد الطالبي، مُستمدّ من تراث المسلمين الشفوي الذي جُمع في كتب الأحاديث والسيرة، والذي أنكره واتّهمه بأنه حرّف رسالة القرآن. الآيات، يقول الطالبي، تتحدث عن الظروف «التي تم فيها زواج النبي من زينب، ابنة عمّته أميمة. لقد تمّ هذا الزواج في ذي القعدة سنة 5 (أبريل 627) ». ثم يُعيد علينا سرد الرواية كما جاءت في كتب المسلمين، ويُعلِمنا بأن هذا الزواج أثار ضجة كبيرة في المدينة، وسببها أن «النبي قد زوّج دَعِيَّه، أي ابنه عن طريق التبنّي، زيد بن حارثة الذي كان له عبدا قبل الإسلام فعَتقه وتبنّاه، من زينب ابنة عمّته، وكانت كارهة لهذا الزواج، فأخفق الزواج وانتهى بالطلاق. فتزوّجها النبي بعد طلاقها، وكان قد شُغف بها ويُخفي شغفه ».
لاحظوا هذه العبارات: "ابنه"؛ "كان عبدا"؛ "زوّجه ابنة عمّته"؛ "كانت كارهة للزواج"؛ "شغَفَ بها"؛ "يُخفي شغفه"؛ مذهل حقا. كيف يسرد هذه الأشياء المَعيبة ويمرّ عليها دون أن تسترعى انتباهه؟ نبيّ له عبد، أصبح ابنه، زَوّجه ابنة عمّته، فكرهتْ الزواج، ماذا فعل؟ تزوّجها هو. أنا أسأل ضمير هذا المؤرخ الكبير: هل هناك ذرة من المعقولية في هذه التصرفات؟ هل هناك ذرة من الأخلاق في سلوك من هذا القبيل؟ هذا الرجل يعيب على المسيحية رذائلها الجنسية، ويتّهم المسيح شخصيا بأنه يمارس الدعارة ويطوف ببيوت المومسات، ولكنه لا يعيب على رسول الإسلام أنه ترك النساء من حوله والتَفَتَ إلى زوجة ابنه. قال: «فشنّع عليه أهل المدينة هذا الزواج لأنه ينافي العرف السائد الذي يمنع زواج الرجل من زوجة دعيّه في حالة فراقه بالطلاق أو الموت، لأن الدعي بمثابة الابن ». لكن هذه مراوغة مفضوحة، لأن هذا العمل مناف للعرف والأخلاق ليس بالنسبة لأهل مدينة يثرب في تلك الفترة بالذات بل بالنسبة لأي تجمّع بشري سليم يحترم أخلاق الزواج؛ ليس من المعهود في روما وأثينا، عند والفرس أو الصينيين أو المغول أو في أي حضارة أخرى أن يتزوّج الأب زوجة ابنه، فقط لأنها كَرِهَت زوجها.
إن الطالبي، مِثله مثل المسلمين جميعا، مُستعدّ لفِعْل كل شيء كي يُبرّر هذه الحادثة؛ مستعدّ أن يقلب نظام العالم، أن يدوس على القيم الأخلاقية، ويضطهد مبادئ المنطق والعقل لكي يُنقذ دينه ويحافظ على تاريخه المقدس. فعلا، ما كان لأي واحد من الناس أن يفعل ذلك لولا نزول آيات قرآنية من إله الكون، وتصوّروا، ماذا فعلت هذه الآيات؟ في رأي الطالبي هذه الآيات: «نَقضتْ العرف، وأباحت للجميع ما كان مَحظورا، وعن إثرها وعملا بها، تزوّج النبي من زينب طبق هواه ». نقْضُ العُرْف، إباحةُ أعمال لا أخلاقية (محظورة)، اطلاق العنان للهوى الشخصي، كل هذه لا تعني للطالبي شيئا، لا بل إنّ حَشْرَ الله في هذه الشؤون العائلية لا يُثير فيه أي تساؤل. أنا متأكد أنه لو جاء في القرآن أن أكل لحوم البشر حلال لوجَدَ له المُبرّرات، ولحَسَّنه وأثنى عليه. لكن النبي لم يتزوّج طبق هواه، تزوّج طبقا لهوى الله، الذي كشف ما كان يُبطنه نبيّه ويخشى البوح به، يعني، بعبارة أخرى، الله فضح نوايا نبيّه الباطنية أمام الناس، وهذا أمرٌ مدهش حقا، لا نعثر على مَثيله في أي كتاب في العالم، أن يَفضحَ أحدهم نفسه بنفسه أمام الجميع، ويقول إنه أمرٌ إلهي، وهكذا يدوس على قدسية الله ويجعله شريكا له في الرذيلة.
المَخرَج الثاني الذي ارتآه الطالبي هو التركيز على ضعف الرسول وإنسانيّته المحدودة، وهكذا يتمّ بكل تساهل تغييب الله الذي، في مواضع أخرى، يتدخّل في كل صغيرة وكبيرة من حياة النبيّ، ويتمّ تغييب الوحي وقدسية القرآن والأخلاق الحميدة وما إلى ذلك من التعاليم السامية التي يَتَباهى بها المسلمون. فعلا، مَن ينتقد محمدا من المسيحيين، يقول الطالبي، فهو يُغفل هذه الحقيقة، وهي أنه «إنسان حقيقي ككل الناس، يحق له ككل الناس أن تُحترم حياته الفردية الذاتية الحميمة، ككل حياة ذاتية فردية داخلية ». ومَن قال العكس؟ مَن قال إنه يجب انتهاك حرمة الحياة الشخصية للناس؟ كان على الطالبي أن يسأل نفسه: مَن الذي لم يحترم الحياة الشخصية إن لم يكن القرآن ذاته الذي روى أشياء محرجة لا داعي للخوض فيها، من قبيل: زيد قضى من زوجته وطرا فزوّجناكها؛ امرأة مؤمنة تهب نفسها للنبي يستنكحها؛ ما ملكت يمينك ..الخ.
أما قوله إن محمدا هو « رجل ككل الرجال، رجل حقيقي لا ميثي، يأكل ويشرب ويغضب ويرضى، ويتألم ويهوى، ويشتهي ويحب »، فهو لا يحل المشكلة الأخلاقية بل يُفاقمها. أين الله إذن؟ أين الوحي؟ وكيف يكون محمد رجلا ككل الرجال، خاضع لنفس إلزاماتهم، وهو الذي يصلّي عليه الله والملائكة؟ وكيف غاب الله في الوقت الذي كان الجميع ينتظرون تدخّله لاحترام الأعراف والأخلاق الحميدة؟ أم أن الله قد غُيّب هنا وأُقحِم هناك لكي يسوي حياة محمد الشخصية، كما تشير هذه الآيات التي استشهد بها الطالبي؟
تساؤلات عديدة لم يُجب عنها الطالبي، لكنه وضع نفسه في مأزق خطير، واختار المَوضِعَ الأكثر هشاشة في الإسلام والذي يتحرّك فيه المسيحيون بكل اعتداد وأريحية، ويُبكّتون فيه المسلمين تبْكيتا رهيبا، ويُلقّنونهم درسا في الأخلاق لن ينسوه أبدا. ونص القرآن نفسه هو الذي يُوفّر لهم هذه الفرصة، ويمنحهم السلاح لإدارته ضد الإسلام، أما الأحاديث، أعني أحاديث النكاح، فهي حقل لا ينضب، يجدون فيه كل ما لذ وطاب من اللواط والسفاح وشرب الخمر والتوضؤ به حتى، كما جاء في مسند أحمد. وهي كلها موثقة ومعترف بها من طرف كل المسلمين منذ أن خُتِمت مدوّناته الكبرى.

7. يَنقض نفسه بنفسه: من العفّة إلى الدعارة
----------------------------
في لقاء تلفزي سألتْ صُحفيّة تونسية محمد الطالبي: «البعض يعيب عليك أقوالك وكأنك تُحلّل ما حرّم الله». فأجاب: «أنا لا أحلل ما حرم الله، أنا أقول إن الشريعة كذبت على الله، حرّفت القرآن. أما الإسلام والجنس، فإذا قالت امرأة: أنا أريد أن أكون بغيّا، [ثم نَطَقها بالفرنسية خاطئة (une prostitution)، ثم بالعربية مرة أخرى]: أريد أن أكون قَحْبة، هذا هو الموضوع، أريد أن أشتغل قحْبة. لها الحق أن تشتغل قحبة». وما هو سنده الأساسي لهذه الرخصة؟ القرآن، هكذا يردّ المؤرخ، «القرآن يقول: (فلا تكرهوا فتياتكم على البغاء إذا ما أردن تحصنا)، والأصح (إن أردن تحصنا)، [تصوّروا قرآنيّا يخطئ حتى في التفوّه بآية بسيطة من القرآن]. ما المحرّم إذن؟ تسأل الصحفيّة. جوابه: المحرّم هو «الاكراه على البغاء (le proxénétisme )، أما هي إن أرادت أن تشتغل وتكسب الفلوس، تكسب الفلوس، محترمة، فهي مسلمة، كاملة الإسلام، يجب احترامها. النبي، البغايا، في زمنه يتجوّلن في الشوارع وفي أي ركن، لم يضرب أي واحدة منهن ولم يقتل أي واحدة، لم يعاقب أي منهن. هذا ما قاله القرآن».
لكن أليس جنسا هذا؟ تسأله الصّحُفية، التي أحسّت بامتعاض شديد فغَطّت وجهها بوَرَقة أمام الكاميرا من شدّة الخَجل، لا ليس جنسا، بل بغاء حلالا. ثم زاد من معلمواتها بأن روى لها واقعة المرأة التي لا تمنع أحدا من ملامستها، فقال النبي لزوجها اتركها واترك الاخرين يستمتعون معك. وهكذا، في عرف الطالبي، فإن نبيّ الإسلام أباح الاستمتاع الجماعي بالمرأة، يعني، النكاح الجماعي كما يحدث في جهاد النكاح المتفشّي بين الإرهابيين. لماذا نَعيب على الغربيّين الذين ينتقدون القرآن ويتّهمونه بالتسيّب الأخلاقي وبالتشجيع على الدعارة، "البغاء"، إذا كان لدينا مؤرّخ قرآني يؤكّد ما يقولونه، ويزيد عليه تفاصيل مخجلة؟
لكن بعيدا عن تصريحاته التلفزية هذه، وبغضّ النظر عن ردود المسيحيين المُفحِمة، فإن كتابات السيد الطالبي تُدينه، وتنقض كل ما قاله عن تَعفّف الإسلام مقابل شبقيّة المسيحية. في تأويله للآية (فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ..)، قال إن هذه الآية لا تُحرّم تعدد الزوجات، بل هي واضحة وصريحة في الاباحة، وهكذا فَهِمَها المسلمون القدامى بحيث إنها «لم تُعتَبر في أية فترة من الفترات كآية مُحرِّمة لتعدّد الزوجات ». والمسيحي بدوره يسأله أين شرّع يسوع لتعدّد الزوجات في إنجيله؟ الطالبي ليس له أي جواب لأنه يؤمن بالله ورسوله ويعتقد أن القرآن هو كلام الله السرمدي وبالتالي تعدد الزوجات ليس محرما وإنما من يرفضه أو يمنعه، كما فعَل بورقيبة، هو الذي يخالف القرآن. وهذا نص كلامه: «الآن نحن نؤوّلها تأويل التحريم، وهنا يَكمن الإشكال، إذ لو كان الإسلام يحرّم تعدد الزوجات اعتمادا على هذه الآية، لَمَا وقع العمل بتعدّد الزوجات في حياة الرسول بعد نزول هذه الآية وإلى يوم الناس هذا ».
إنه يُلزم نفسه والمسلمين بهذه الآية، معتبرا ضمنيّا أن المُشرّع التونسي الذي منع التعدد بالقانون، وأن التونسيين الذين خضعوا لهذا القانون، هم خارجون عن الإسلام ومخالفون لتعاليم القرآن. القول بالعكس، أي بأن الإسلام حظر التعددية، هو كارثة ناسفة للقرآن من الجذور، بل إدانة تاريخية وأخلاقية للإسلام والقرآن ومحمد وتاريخ المسلمين من أول يوم حتى قيام الساعة. وهذا بالنسبة لتقديسي متناقض، مثل الطالبي، لا يمكن أن يكون، وبالتالي يجب قبول التعدّدية مهما كانت النتائج: «إن المجموعة الإسلامية طيلة تاريخ الإسلام لم تتعامل مع هذه الآية على أنها تحريم، فهل يُعقَل أن جميع المسلمين أحلّوا الحرام ومارسوه إلى أن ارتفع اليوم صوت كشَفَ لهم أن الآية تُفيد التحريم؟! هذا غير معقول ». غير معقول لأن نص القرآن مقدّس وهو كمؤرخ وأكاديمي لا يرى أي ضير في أن يحشو عقله بالمقدسات والمعجزات والخرافات: «قد قُلتُ وأكرر إنّ النص في نظر المؤرّخ مقدّس ». هذا هو مفهومه للتاريخ عموما وللمؤرخ خصوصا: إنسان تعرّى عن عقله وألقى بمهمّته الأكاديمية عرض الحائط، لكي يتشبّث بما يَهدِم أسس علمه: المقدس.
إنها كارثة علمية بأتمّ معنى الكلمة، كارثة تعدّت مجال العمل لكي تتمركز في مجال الحياة العامة للمواطنين وتَعْبَث بعقول الشبان. ولرفع كل التباس فقد شمّر السيد الطالبي على ساعديه لمجابهة واحدة من جملة الآيات التشريعية التي عذّبت القرآنيين وأدخلتهم في حالة هستيريا. الآية تقول: (انكحوا ما طاب لكم من النساء، مثنى وثلاث ورباع). كلام صريح فصيح، لم يستعمل فيه صاحبه فعل "تزوّجوا"، وإنما "انكحوا"، يعني "مارسوا الجنس، نيكوا"، ما اشتهيْتم من النساء، من اثنين إلى أربع. ثم استثنى (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة)، وهو استثناء هجين لأنه مربوط بمشاعر ذاتية، أما الكلمات التي تليه فهي حقا تفتح الباب على مصراعيه لجميع أنواع الرذيلة والدعارة (أو ما ملكت أيمانكم).
المُفزع أن الطالبي، تماشيا مع هذه الآية، لا يستنكر العبودية، ولا يُدين امتلاك رجلٌ لمجموعة من النساء كمَتاع؛ يَشتريهنّ من سوق النخاسة، ويستحلّ أجسادهن ويُمرّغ كرامتهن في التراب، كما تفعل داعش الآن وبُوكو حرام وأخواتها. مِن الأفضل للرجل، يقول الطالبي، «أن يكتفي بزوجة واحدة، وبعدد غير محدود ممّا ملكت يمينه، أي من الجواري، اللائي لا يُشترط فيهنّ العدل ». أسمعتم؟ مُلك يَمين؛ جوارٍ؛ عدد غير محدود؛ لا يُشترط العدل بينهنّ. تذكّروا أن هذه الأقوال وردت في كتاب ألّفه سنة 1992، قبل أن تقام أسواق النخاسة بالفعل في الرّقة والأنبار.
لماذا نَعيب على داعش ما تفعله اليوم إذا كان لدينا مؤرخ وأستاذ جامعي ومؤلف كُتب تربو على الخمسين كتابا، يقول للمسلمين إنه، بالاعتماد على نص القرآن، يمكنهم أن يملكوا نسوة كما تُملَك الحمير. أليست شرعنة ما قبليّة لما تفعله داعش الآن؟ أليست جريمة في حق الإنسانية؟ كيف يمكننا أن نتحاور مع شخص لا يدين الرق ولا ملك اليمين لأنه لم يجد في القرآن ما يمنعها؟ ويريدون تعليم القرآن للأطفال في المدارس الحكوميّة بتونس، وتخريج جيلٍ من المجرمين والمرضى النفسانيين.
ألا يحق للمسيحي أن يسأل الطالبي: أين هذه القاذورات من الأناجيل؟ هل أمَرَ المسيح أتباعه بأن يَسترقّوا النسوة وينكحوا ما طاب لهم من الحرائر والعبدات؟ لكن الطالبي، مرة أخرى، ليس لدية أيّ رد معقول لمجابهة المسيحي بل إنه يبرّر تصوره للإسلام كدين جنساني عبودي: «إن النص القرآني لم يُحرّم التعددية الزوجية، كما لم يُحرّم الرق ». وهذا الدرس التَقَطَه جنود الإسلام في القاعدة وداعش وفعّلوه في الواقع.

8. آخر نداء للمسيحيين: ادخلوا في دين الدعارة الحلال
----------------------------------
مَن المسؤول عن إعطاء صورة قبيحة للإسلام؟ السلفية، يجيب الطالبي، ووسائل الإعلام الغربية، والتي هي كلها مسيحية. فعلا، «السلفية هي التي تُزوّد وسائل الإعلام الغربية » بالمَشاهد القاسية المرعبة المنفّرة، التي من شأنها أن تسعد السلفي المغيّب عن عصره، وتُشقي «المسلم الحزين .. وتزداد أعداد الانسلاخسلاميين، النافرين من الإسلام ومنه يُنفّرون ». لكن، قد يَعترض المسيحي والانسلاخسلامي، أليس كل ما يفعله هؤلاء موجود في تعاليم الإسلام وفي نص القرآن؟ ألم تَكتُب أنت نفسك، منذ الثمانينات، أن الرقّ حلال وأن ملك اليمين حلال؟ والآن، ألم تُحلّل الدعارة بنصّ القرآن؟ ألم تجعل الاكتساب منها مباحا؟
ليس صحيحا، يقول الطالبي «هذا يكذبه القرآن الكريم، الذي يحض على كرامة الإنسان، ومراعاة حقوقه، ويؤكد القيم الإنسانية العالمية التي تضمن كرامته وسعادته وحقوقه، في كل زمان من أرض الله الواسعة ». لكن هذه القيم لا نجدها في الغرب اليهودي المسيحي، لأن المسيحيين هم أكبر من اضطهد اليهود على مر التاريخ ، أما الإسلام فأياديه نظيفة، لم يضطهد ولم يسترقّ أحدا عبر تاريخه. هذه الأولى، الثانية هي أن المسيحيين لا يعرفون مسيحهم حق معرفة .
ولكي يَنسلّ من لعبة المواجهة النزيهة، ويُبعد الأنظار عن مفارقات دينه، فهو يعود إلى مخزون الأحكام الإسلامية ضد كتب المسيحيين. الأناجيل: لا علاقة لها بالقداسة ولا سبيل لمقارنتها بالقرآن، كما يفعل المُغيّبون «في ملتقيات الحوار المسيحي الإسلامي ». الأناجيل هي أربعة أسفار قصيرة «تروي سيرة وأقوال عيسى/يسوع بخلطٍ كبير بين الشخصين، وتسمّيها المسيحية الأناجيل الصحيحة وتقول إن مؤلفها هو الإله (Dieu)، وأملاها الروح القدس على الإنجيليين الذين دوّنوها بدون غلط ولا خطأ، بضمان الروح القدس». فعلا المسيحيون يقولون ذلك، ويؤمنون به حق الإيمان، ويقدّسون أناجيلهم، وما دخل السيد الطالبي في معتقدهم؟ هل فرضوه عليه بالقوة؟
المسيحيون لم يَفرضوا عليه إنجيلهم لكن الطالبي يريد أن يَفرض عليهم قرآنه وكل ما يحتويه من تجريحات وإهانات، ومن ضمنها أن عيسى يهودي يدعو إلى الله «ويقوم برسالته بين بني اسرائيل الذين أُرسل إليهم. والله يضع على لسانه قوله لهم: "ومصدقا لما بين يدي من التوراة، ولأحلّ لكم بعض الذي حرّم عليكم .. الآية". إذن عيسى كان يتلو التوراة، مصدّقا لها، كما كانت تُتلى في عصره، ويسمّي الله باسمه في التوراة: يهوه وإيلهيم.. ».
العهد القديم هو ذاته محرف، والدليل على ذلك أنه يستعمل كلمة يهوه وإيلهيم «العهد القديم المحرّف يتحدث على إله بني اسرائيل الشخصي الأوحد يهوه وإيلوهيم، ويتحدث عن آلهة أخرى ».
العهد الجديد محرّف، مضروب في عشرة، على عكس القرآن الذي لم يتبدّل قط ـ ويجب التذكير دائما بأن قائل هذا الكلام هو مؤرخ كبير، متشبّع بالفكر الغربي وبمناهج البحث العلمي، ومتخرّج من السوربون ـ العهد الجديد محرّف لسبب آخر وهو أنه «لم يبلغنا في اللغة التي كان عيسى ـ عليه السلام! ـ يخاطب فيها بني اسرائيل ». وبما أن اللغة اليونانية هي لغة وثنية فإن الإله الذي يُذكَر في الأناجيل هو إله وثني «إله من بين الآلهة، لا إله واحد أحدا، لأن هذا التصور غائب تماما في الفكر اليوناني وفي اللغة اليونانية، ولا يمكن إذن ترجمتها بكلمة الله من دون أن نقع في البلبلة وارتباك التصورات ». نصيحة الطالبي للعرب المسلمين هي هذه: «حيث نجد في الترجمات العربية للعهد الجديد كلمة الله، يجب أن نعوّضها بكلمة "الإله"، ما لم يكن هناك ما يفيد أن الكلام على لسان عيسى النبي حقا ».
أن تكون الأناجيل محرّفة، فهذه القناعة ليست من تخمينات الطالبي، أو ادعاءات أحد الاسلاميين السلفيين، بل هي نتيجة أحدث ما تمخّضت عليه النظريات العلمية التي تَكرَّم بها الغربيون علينا، وأَرَاحُونا من عناء البحث والتنقيب. فالسيّد الطالبي الذي يرفض رفضا باتا أن تُطَبّق المناهج الفيلولوجية على القرآن، هاهو ذا يُقصّر على نفسه الطريق ويلتجئ إلى علماء الغرب كي يَضْرب قدسية الأناجيل التي هي بين يدي المسيحيين . لا شيء يجمعنا بالمسيحيين، (يسمّيهم "إخواننا المسيحين")، في الدين أو الكتاب المقدس: «قِبْلَة إخواننا المسيحيين الصليب الماثل في كل كنائسهم على المذبح، وقبلتُنا مقام ابراهيم عليه السلام، لا نعبد نفس الإله. يجب إذن ألآّ ندعو إلههم وإلهنا بنفس الاسم. إلهنا الله كما يُعرّف نفسه في القرآن، وإله المسيحية ليس الله، يجب إذن ألاّ نطلق أبدا اسم الله على إله المسيحية، كي نترك سبيلا إلى التّعتيم المقصود، وكي نقي أنفسنا وأمّتنا من التضليل الذي يَغرّ اليوم المنقلبين من الإسلام إلى المسيحية أفواجا ».
المسيحيون في النهاية هم كفار يعبدون رجلا ميّتا ويقدّسون خشبة صليب وحياتهم عدم في عدمٍ: «المسيحيون لا يعبدون الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفء أحد، وإنما يعبدون المصلوب على الصليب، يسوع، الإله بالمفهوم اليوناني للكلمة، لا الإله بالمفهوم القرآني ... المسيحيون يعبدون يسوع المسيح الماثل أمامهم على الصليب، ابن الله ... المسيحيون يؤدّون طقوسا عبادية إلى مارية، أمّ يسوع ابن الإله وأم الإله، التي لا تخلو كنيسة من تمثالها حاملة ليسوع صبيّا ». وهذه المظاهر تتماهى، في عين الطالبي، مع وثنيّة القدماء (وقد رأينا يوسف زيدان كيف ركّز على هذه النقطة)، حيث أن «أمّهات الآلهة لا تكاد تُحصى في كل الأديان الوثنية القديمة في كل القارّات، ولقد بَلغتنا تماثيل لهنّ، كل منهنّ حاملة بإله ».
وكما أن يسوف زيدان جعل من قضيّة ماريا قضيته الشخصية حتى أنه توسّع في تقريب صورتها من صورة أم الإله الوثنية، كذلك فعَل الطالبي، لكن بأكثر حدّة وأشدّ نكالا: «الإله الأب فعَلَ بماريّة ما كان يفعل آلهة اليونان بالإنسيّات. زوس (Zeus) مثلا، أخذ شكل ثور جميل ليُخصب الفتاة الجميلة أوروبا (Europa) ويُنجب منها الأوروبيين ». هذه وثنيّة واضحة، في رأي الطالبي، لا بل تخريف محرّف يدعو للاستغراب: «كيف لا نرى في كل هذا خرافة محرّفة؟ ». ومن الذي قوّم هذا التحريف؟ ليس الطالبي ولا علم التاريخ أو الفيلولوجيا وإنما القرآن، وبالتحديد في سورة (آل عمران، 3: 45 ـ 51) «يُقوّمها ويَضعها في احداثيتها الحقيقية ». لكن مع المسيحية نَبقى دائما في صُلب الوثنية، وإله المسيحيين زانٍ، كاذب، مخادع: «كيف لا نصف الإله الأب، بالكذب المبيّت على مارية، أم يسوع، كي يُغويها ويُغريها ويستغويها، كما كانت تفعل الآلهة الوثنية؟ كي يجعلها تسلّم نفسها إليه، وعَدَها أنه سيجعل من ابنها ملك اليهود! فخان الوعد [..] هذا الإله الذي يقع على فتاة بريئة فيكذب عليها ليغدرها ويستغويها، هو في نفس الوقت، في خرافة أخرى، الإله الذي طرد الإنسان من الجنة »
لم يَكتف المسيحيون بالشرك والوثنية بل إنهم أقدموا على عمل أشنع، وهو أنهم يَقْتَاتون من إلههم، مثلما يفعل الوثنيون: «المسيحيون، في قدّاسهم، يأكلون لحم الإله ويشربون دمه ». كل هذا التجريح الغرض منه مجددا هو تنبيه المسلمين الغافلين على أنه «من المغالطة السافرة، أن نُطلق على إله المسيحية اسم الله ـ جل جلاله وتباركت أسماؤه ـ وهذا ما أردنا أن ننبّه إليه ومنه نحذّر ».
الطالبي إنسان حربي قرر أن يُرسي مع "إخوانه المسيحيين" حوار مواجهة إيمانا منه بأنه «إذا ما تَخلّينا عن مواجهة حوار المواجهة، تكون الحجة البالغة علينا ». دون أن يخلّ بما يَكنّه من عميق المودة وفائق الاحترام للمسيحيين، كما يقول. وقد أبدى احترامه لهم بضرب دينهم واتهامهم بالوثنية وبأنهم يعبدون قِطعة خَشَب، ويأكلون إلههم ويشربون دمه. إن الطالبي له مشكلة شخصية مع المسيح ومع كل ما يرمز إليه في الديانة المسيحية، ولذلك صبّ عليه جام حُنقه، وقذفه بنعوت لا تُتَصوّر. إن هذا الدين الذي يَدّعي احتكار المحبة والاحسان «يجعل إلهه الأب، من أجل ذلك، يقتل ابنه معطيا بذلك أبشع صورة للألوهية وللأبوّة .. مِن بالِغ مَحبّته في الإنسان، الإله الأب، كلّف بإنفاذ مهمة المحبة شعبه المختار .. وسلّم إليه ابنه الفريد يسوع الإله، وتخلّى عنه، وتركه يُقتل أرذل وأشنع قتلة على الصليب، رأسه مكلل بالشوك ». إن في صرخة يسوع على الصليب، يواصل الطالبي، «دلالة واضحة جليّة كعين الشمس، على أن يسوع لم يكن راضيا على أن يكون خروف الضحية في عيد الفصح اليهودي ... اليهود يضحّون بخرفانهم، والإله الأب يضحّي بابنه، وبهذا يشارك في الاحتفال وفي فرحة شعبه ».
ويجب التذكير أن كل هذه التهجمات تندرج في باب الحوار، حسب قاموس الطالبي. قلتُ بأن هذا الرجل له مشكلة شخصية مع المسيح، يريد أن يهدم صورته الإنجيلية بكل الوسائل. يسوع لا يبدو كبطل «بل يبدو لنا كرجل دون العادي، جبان، خائر القوى، يرتعد من الخوف، عرقه يسيل دما، لا يكحّل عينيه النوم من شدة الهلع والولع، يبتهل .. يتضرّع لأبيه الأصمّ لتضرّعه، كي يبعد عنه كوب الموت ».
لماذا يواصل المسيحيون في التشبّث بدينهم، والاعتقاد في مسيحهم؟ لماذا لا يتحوّلوا جماعات وزرافات إلى دين الحرب والغلظة؟ فالإسلام يوفّر لهم أمثلة بطولية لا يجدونها في دينهم: يسوع الجبان، التّافه الذي خَشي الموت يُقابله نموذج الارهابي المسلم الشجاع الذي يُفجّر نفسه في الأبرياء، ويقتل أكبر عدد منهم؛ ومريم التي تبكي ابنها تُقابلها الإرهابيات الإسلاميات، ومجاهدات النكاح، اللواتي هنّ «في مُقتَبل العمر، بجَلَدٍ ورباطة جأش وشعور بالاعتزاز، لا يَبكين ولا يتأوّهن ».
إن الإيمان بيسوع، في رأي الطالبي، هو جنون خالص بالمقارنة مع معقولية الإرهابي المسلم: «مَن هو يسوع الاله الذي يبكيه المسيحي كل يوم، بالمقارنة مع هؤلاء الذين لا يكاد يبكيهم أحد سوى أهلهم وأصدقائهم؟ ». هو لا شيء بل إنه الكفر بعينه، والطالبي يحمد الله أنه كافر بيسوع، يعني كافر بالكفر: «الحمد لله الذي لم يجعلني مسيحيا، وفتح لي باب قراءة الأناجيل بدماغ غير مكيّف! ». ومرة أخرى يتعجبّ من مكوث المسيحيين على الاعتقاد في يسوع ومن الطقوس التي يؤدونها له «إن الاحتفال المتجدد كل سَنة بالصلب، والنّحيب على المصلوب .. مسرحية، لا شك أنها مؤثرة جدا .. لكنها حديث خرافة. فنحن نعجب لها، ونعجب أكثر من إخواننا المسيحيين المعتقدين فيها، وكأنهم لم يتدبّروا قط الأناجيل بموضوعية وبأنفسهم، وكأنهم لا علم لهم بالتاريخ ».
وهكذا فإن الدعوة مفتوحة، ولا خيار أمام المسيحيين إلاّ التخلّي عن دين الدعارة الحرام، والدخول فورا في دين الارهاب والبغاء الحلال.


--------
مدير مركز القانون العربي والإسلامي http://www.sami-aldeeb.com
طبعتي العربية وترجمتي الفرنسية والإنكليزية والإيطالية للقرآن بالتسلسل التاريخي وكتابي الأخطاء اللغوية في القرآن وكتبي الأخرى: https://sami-aldeeb.com/livres-books



  رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

الكلمات الدليلية (Tags)
محمد, الأربعة, الأشرار, الطالبي, ورابعهم


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 
أدوات الموضوع
اسلوب عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع